شعار قسم مدونات

رحلتي مع التوحد.. حين أصبحت القوة خياري الوحيد!

مدونات - التوحد 22
يحتفل العالم في شهر نيسان/أبريل من كل عام باليوم العالمي للتوعية باضطرابات طيف التوحد، وهي مجموعة من اضطرابات التطور التي قد تظهر في سن الرضاعة، قبل بلوغ الطفل سن الثلاث سنوات غالباً. وددت اليوم أن أشارككم في هذه التدوينة تجربتي كأمٍ لطفل مصابٍ بمتلازمة أسبرغر، إحدى اضطرابات الطيف العديدة، وذلك التزاماً مني بنشر التوعية والرسائل الإيجابية حول التوحد في محيطيّ الأصغر والأكبر، أي هذا العالم الافتراضي الشاسع. يصيب التوحد طفلاً واحداً من كل 160 بحسب احصائيات منظمة الصحة العالمية (2017)، والأرجح أن سبب ارتفاع عدد الحالات المشخّصة هو الكشف والتبليغ المبكر، فإذا وضعنا جانباً كل المخاوف، لوجدناه مؤشراً إيجابياً على نمّو الوعي عند الآباء والأمهات بهذا المرض. 
يؤدي اضطراب طيف التوحد إلى ضعف التفاعل الاجتماعي والتواصل اللفظي وغير اللفظي، فيبدو الطفل في بعض الحالات الصعبة منطوياً على ذاته أو غارقاً في "عالمه الخاص". ولاضطراب التوحد درجاتٍ عدّة: فهناك الحالات الخفيفة، التي قد يستعصي على الأطباء تشخيصها مبكراً، كما حصل مع ابني، والتي تسمى بالتوحد العالي الأداء، ومنها متلازمة أسبرغر. وهناك الحالات الحادة التي تتجلى أعراضها بوضوح حتى قبل بلوغ الطفل المصاب عامه الأول. إن هذا التفاوت الكبير، الذي أكسب الإضطراب صفة "الطيف"، يحتّم على الأخصائيين والعامة على حد السواء تفادي التعميم عند وصف الأعراض أو كشفها. فلن تجد طفلين متوحدين متشابهين لا من حيث عدد الأعراض الشائعة الظاهرة ولا حدتها، وإن كان التشخيص واحداً.

قررت أن أكسر حاجز الصمت نابذةً الوصمة التي يوصم بها كل أبوين ينجبان طفلاً "مميزاً". أعلنت عبر مدونتي بأنني فخورة بهذا الطفل الذي وهبني إياه الله عزّ وجلّ ولا أخجل من هذا القدر ولا منه

بدأنا رحلتنا الطويلة مع التوحد بالسعي الحثيث لاستحصال تشخيصٍ دقيق للحالة التي حيرّت عدداً كبيراً من الأطباء، كما سبق وذكرت، على أن معظمهم وافقني على إحساسي الغريزي بأن سلوك ابني العنيف ونوبات غضبه المتكررة تستدعي القلق وتستوجب التقويم. ومع أنني لا أريد أن أخوض معكم في التفاصيل المملة إلا أنني سأقص عليكم بعض ما مرّ علينا في تلك الأيام والليالي الطويلة التي خيّم فيها الحزن والقلق على بيتنا ونحن نتقلب بين تطمينات بعض الأطباء وتحذيرات آخرين. استهلكت الحيرة كامل طاقتي الجسدية والنفسية فكان لا بدّ من تقصيري في دوري كأم وزوجة وأخت وصديقة. اضطررت في كثير من الأحيان إلى التنقل بين لبنان والبلد الذي كنت أعيش فيه مع زوجي، ووجدت نفسي مرغمةً على أخذ استراحة مطوّلة من عملي كمترجمة، وذلك كي يتلقى ابني العلاج المناسب في المرحلة الأنسب من أطوار نموّه.

حاولت بعد إتمام بعض فترات العلاج ورجوعي إلى غربتي الهروب بالعمل ولكنني عجزت عن تجاهل الصوت الصادح من أعماقي الذي كان يدعوني إلى تحريّ تشخيصٍ نثلج به صدورنا. في هذا الزمن الذي يتيح لك معرفة أي شيء وكل شيء بكبسة زر لا يؤاخذ المرء بجهله، فكيف إذا تعمّد الجهل؟ بعد مرحلة التشخيص وصلنا إلى مرحلة التقبُّل، وهي بلا شكّ المحطة الأهم في رحلة التوحُّد، فلا طائل من المسميات ولا فائدة من معرفتنا بالمُصاب دون أن تتوفر لنا وسائل الدعم وخطة واضحة للعلاج. عدت إلى وطني لأجل ذلك وأنا أحمّل قلبي عبء الصبر في خضم خيباتنا المتكررة. كنت أتمسك بالأمل تمسُّك الغريق بطوق النجاة؛ لم يعد يعنيني شيء سوى أن ينال ابني فرصة تعليمٍ مساوية وأن يلتحق بمؤسسات تربوية ترحّب بحالته ولا ترفض اختلافه. لم تكن المسألة بسيطةً بالطبع، فعلى الرغم من تقبل فكرة الدمج في بعض المدارس في عالمنا العربي، التي بالكاد تكون مهيأة لإستقبال مثل تلك الحالات، إلا أن العقبات والتحديات، وخاصةً تلك المرتبطة بالنظرة الاجتماعية للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، تقف لنا عند كل منعطف.

قررت أن أكسر حاجز الصمت نابذةً الوصمة التي يوصم بها كل أبوين ينجبان طفلاً "مميزاً". أعلنت عبر مدونتي بأنني فخورة بهذا الطفل الذي وهبني إياه الله عزّ وجلّ ولا أخجل من هذا القدر ولا منه. صراحتي هذه كانت السبيل الوحيد لشفائي والتأقلم مع ما أراده الله لي ولعائلتي. لم أتردد يوماً عن البوح بهذا "السرّ" الذي أرادني بعض المشككين أن أكتمه وكأنه إثمُ وجب ستره. لم أندم على الثقة التي منحتني إياها تلك التجربة والتي امتدت إلى كافة شؤون حياتي. كنت قبل ذلك أواجه القدر بالانعزال طوعاً وكرهاً، ولكنني وبفضل الله ورحمته التي ربط بها على قلبي والدعم الكبير الذي منحني إياه كلّ من زوجي وأمي وإخوتي تمكنت من الخروج من قوقعة الاكتئاب ومجابهة الواقع برضىً ويقينٍ بأن ما يخفيه لنا الله في الغيب أجمل وأنّ تضحياتنا لن تذهب سدى.

رحلتي هذه التي كان خياري الوحيد للمضي قدماً هو أن أكون قوية جلبت لي خيراً كثيراً بحمد الله. فهمت بعد تجربتي أنّ الأم التي تحمل همّ طفلٍ مميز لها شجونٌ مختلفة لا تفهمها إلا الأم التي ذاقت لوعة القلق من انتظار المجهول. وجدت الأيادي تمتد لنجدتي حيناً وأصبحت أنا نفسي يداً تمتد لانتشال غيري من ظلمات الحيرة والشك حيناً آخر. لذا حاولت قدر استطاعتي اختصار طريق المعاناة على بعض الأمهات اللواتي كنّ يأتينني طلباً لنصيحة أو رقم هاتف طبيب ماهر أو لمجرد الفضفضة. تشاركنا الخُبرات وتبادلنا الأفكار ومعها الهموم والعَبَرات. كنت أشعر أخيراً بأنني لست وحيدة، فشعور الوحدة الذي كان يخالجني في بداية مشواري مع الأمومة فاق استطاعتي.

إن كنت نادمةً على شيء واحد فهو أنني كنت أعتبر هذا القدر ابتلاءً أو عقاباً ما، حتى أصبحت أداوم على جلد ذاتي ولومها وتوبيخها بشكل يومي. كانت صدمتي النفسية كالغشاوة التي تحول بيني وبين النور، فلم أبصر الحقيقة ولم أر النعمة ولم أقدّر الهبة. ولا أبالغ إن قلت أن إبني هو النعمة الأكبر في حياتي وأن حبّي له فتح لي آفاقاً لم تكن لتفتح لولا حكمة الله ومشيئته. ولا ريب أن الله يستودع في هؤلاء الأطفال الأبرياء سر صمود آبائهم وإستمراريتهم وإصرارهم على التغيير.

undefined

ولا أخفيكم أن تقبل طفلٍ مميز أمرٌ بالغ الصعوبة. أقولها الآن وأنا أستحضر المراحل الأولى لاستكشاف طفلي العالم، تلك اللحظات التي عزمت على اقتطاع المؤلم منها من شريط ذكرياتي ودفنه في سراديب النسيان كي أتعايش مع أمومتي الجديدة بسلام. ليس هدفي من هذا المقال المبالغة في تصوير المعاناة ولا حتى إقناعكم بأن جميع الأطفال المتوحدين يتمتعون بذكاء خارق أو موهبة فذة. فالطفل المتوحد كغيره من الأطفال، له اهتماماته واحتياجاته وحقوقه سواء كان يتمتع بنسبة ذكاء عالية أو عادية أو دون العادية.

إن الهدف من مقالي هو توجيه رسالة لأولياء أمور الأطفال المتوحدين والأمهات بالتحديد: غيروا نظرتكم إلى هذا الطفل تتغيّر حياتكم إلى الأفضل بإذن الله. غيروا نمط حياتكم وإجعلوا إسعاد أنفسكم هدفاً أساسياً كي تتجدد لديكم طاقة العطاء، فلا يمكنكم أن تملأوا البيت حباً وسكينةً إن لم تكونوا أنتم سعداء مطمئنين. لا تتأثروا بما يُقال عن أطفالكم في محيطكم وفي وسائل الإعلام في بلادكم؛ كونوا أنتم صوت ابنكم أو ابنتكم الذي لا يسمعه الآخرون؛ أحيطوهم بالحب وهيئوا لهم بيئة حاضنة في البيت والعائلة والمدرسة والملعب. واجهوا الواقع بصبر واحتمال واعلموا أن الله لن يضيع أجر رعايتكم وتضحياتكم.

ثم واظبوا على قراءة المواد العلمية من مصادر موثوقة ولا تغرّكم وفرة المقالات والفيديوهات التي تروّج لأنظمة غذائية معيّنة "تشفي" من التوحد أو تطلق العنان لنظريات مثيرة للجدل ليس لها أي أساس من الصحة ولا صلة لها بالحقائق العلمية. ولكي تمحّصوا المعلومات الدقيقة من غيرها وأخص بالذكر تلك المنتشرة على شبكات التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم ما عليكم سوى استشارة الأطباء الثقات الذين سيفيدونكم بكل جديد في مجال البحوث والدراسات الخاصة بالتوحد.

أدت زيادة الوعي بالتوحد إلى تظافر الجهود المدنية واطلاق حملات توعوية عالمية للتعريف بالاضطراب ودحض الخزعبلات المحيطة به. لا يكفي إنتقاد الجهل المستشري في مجتمعاتنا دون محاولة التعرّف على أسبابه، ولا يمكن القضاء على الجهل إلا من خلال نشر العلم، ولا يمكن نشر العلم إلا بعد تحطيم أصنام الخرافة والخوف مما ظاهرُه مخالفٌ للعادة حتى لو كان جوهره فريداً متميِّزاً. ويبقى أن أتمنى، كأم وإنسانة، أن يبصر العالم الاختلاف بعين العطف والرأفة، وأن تولى هذه الشريحة من ذوي الحقوق مزيداً من الاهتمام الذي من شأنه أن يحميها من التهميش أو التشويه في الإعلام والفن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.