شعار قسم مدونات

فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا

blogs دعاء

من الرّائع حقًّا أن ينظُر الله إلى قلبِك حين تلجأ إليه في إحدى انهياراتك، فيرى وهو العليمُ بأنّك مُتعب، أرهقتك دُنياك وأعياك منها ما أعياك، فيرمي فيه بذرة من السّكينة والطمأنينة دون أن تُلاحظ، لكن مع مرور الوقت تشعُر بها تنمو بداخلك وتتغلغل جذورها في أعماقك، ثمّ تلوحُ غيمةٌ من السّعادة بالأفق، وتنبُت بذرة الطمأنينة تلك لتعتري صدرك وتُخفّف عنك قسوة هذه الحياة، فكلّ عُسرٍ لابدّ وأن يتبدّل إلى يُسر، والنّاس اليوم هم أحوجُ إلى من يبثُّ في نفوسهم الأمل، ويُريهم الوجه الجميل للحياة، ولا أجملَ وأصدقَ ممّا ورد في القرآن من آياتٍ كريمةٍ تتحدَّث عن ذلك!

انظر مثلاً إلى نبيّ الله يعقوب عندما جاء أبناؤه إليه يبكون (يتباكون)، وجاءوه على قميص يوسف بدم كذبٍ، قال لهم في قوله تعالى: "بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا"، فكلامهم كلّه لم يمحُ حقيقة ما سرده عليه من قبل إبنه يوسف -عليه السّلام-: "يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ"، فقلب المؤمن دليله، مهما تقطّعت الحبال، وضعف الرجاء، واشتد الكرب، تجاهل كل الأيمان المغلظة التي تنثرها الحياة من حولك ولا تقطع حبل الرجاء مع الله وحينها سيكون عند حسن ظنك، "عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا" إذ كيف يأكله الذئب ولما تسجد له الكواكب بعد؟

 

المؤمن حقًّا من يحسن الظن بربه دومًا، "عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا" لكل أحلامك وحاجاتك لكل ثمين فقدته لكل غال تنتظره قل بثقة (عسى الله أن…)

كن بمبشرات الخالق أوثق منك بما تراه عيناك "فَصَبْرٌ جَمِيلٌ" اهزمْ الكيد البشع والمؤامرات القبيحة والخطط الشمطاء بالصّبـــر الجميــــل حين يعظم البلاء، يجب أن تحسن الظن بربك، ويتسع عندك الفأل والأمل، فهذا يعقوب لمّا اشتد به البلاء وعظُم حزنه على ابنه لقوله تعالى: "وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ"، وقد انعمى بصره، لم يتسرَّب إلى قلبه اليأسُ، ولا سرَى في عروقه القنوطُ، بل أمَّل ورَجا وقال: "فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ"، قالها يعقوب حينما أخبروه بسجن بنيامين بعد ضياع يوسف…

في أسوء حالاته! لم يدع عليهم لم يشتمهم لم يعاقبهم لم يطردهم بل صبر على فعلهم أي تعامل هذا! إنّه تعامل الأنبياء، إنه حنان الوالدين وإن بلغت أذية الأبناء ذروتها، ولقد أعطاه الله فوق أمله، حيثُ كان رجاؤه أن يعود ابناؤه جميعًا إليه في بداوته وشظف عيشه… فقَدَ ابنه الآخر فقال لا بأس يأتون جميعاً! قمة الفأل وحسن الظن بالله، وما أجمله من أمل تُعزِّزه الثقةُ بالله -سبحانه وتعالى -حين قال: "يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"، يقول سيد قطب -رحمه الله-: "الذي ييأس في الضرّ من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة، وكل نسمة رخيّة، وكل رجاء في الفرج، ويستبدّ به الضيق، ويثقل على صدره الكرب، فيزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء… ألا إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلاّ بالرجاء في نصر الله، ولا سبيل إلى الفرج إلاّ بالتوجّه إلى الله، ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضرّ والكفاح للخلاص إلاّ بالاستعانة بالله، وكل يائسة لا ثمرة لها، ولا نتيجة إلاّ زيادة للكرب ومضاعفة الشعور به".

المؤمن حقًّا من يحسن الظن بربه دومًا، "عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا" لكل أحلامك وحاجاتك لكل ثمين فقدته لكل غال تنتظره قل بثقة (عسى الله أن…)، في أحلك الظروف أحسن الظن بربك الرؤوف، "بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا"، لا تثق دائما بميولات نفسك، فقد تميل لأفعال غاية في الشناعة، "وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"، المتفائل لا تزيده المصائب إلا فألاً وثقة بالله، فلا تدري لعلّهُ فرحٌ ينتظرك بعد هذا الكدر والعناء، أو تكون تلك العاصفة التي تسبقُ الغيث، أو ما ترجوه قادم وكلّما تأخّر كان أجمل، فكيف تيأس وتشكو وربّما لا تنام وأنت تؤمن بـ: "لا تَدري لعَلَّ الله يُحدثُ بعد ذلكَ أمرًا".

 

الله سُبحانه وتعالى يعلم بِكلّ ما قُمت بِه التزاما لطاعته ولا يجهل عاطفة قَلبك التي دفعتك للإلحاح المؤدب على غايتك، فاصبِر ولا تتعجل النتائج
الله سُبحانه وتعالى يعلم بِكلّ ما قُمت بِه التزاما لطاعته ولا يجهل عاطفة قَلبك التي دفعتك للإلحاح المؤدب على غايتك، فاصبِر ولا تتعجل النتائج
 

فالمؤمن له صلابةٌ إيمانية تصدّ عنه أحداث الحياة، فالحياة كلها أكدار، وثباتها على حال مُحال، ففيها خير وشر، وصلاح وفساد، وسُرور وحزن، وأملٌ ويأس، ويأتي الأمل وحُسن الظنّ بالله كشُعاعَين يُضيئان دياجيرَ الظَّلام، ثمّ إنّ الله ليس بِغافلٍ عن حُبِّك لِما تُريد، لا يُخفى عليه تَعلقُك بِهذا الأمر الذي شغل تفكيرك، يعلم بِتعلق بَصرك نَحو السماء حيث قِبْلة الدعاء واستجابته، لقوله تعالى: "قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ "، تُقلّب بصرك في السماء، باحثًا ومفكّرًا، مُحاولا طرح ضُعفك وتيهك، أن تُمسك بتلابيب قلبك المتناثر في أصقاعِ هذا الكوكب، لا تجزع واطلُب مِن الله وحدّثه ولا تَخجل. أره مِنك تقلُّبا يُرك تقبُّلاً، ولا تبرح العَتبات، فهو فقط يُهيئ لك الأسباب ليتداركها عقلك البَشريّ، فالعقول لها سقفٌ معلوم لا تتجاوزه، وقد لا تعقِل ما وراءه، وأما صنائع الله ففوق مُدْركات العقول، فإياك أن تستغرب بعقلك فتجزع، وأن تُكذِّب بقلبك فتقنط. وَتحَسَّس مِن ريِحِك وَلَا تَيْأَس، فاليأس والقنوط سببٌ من أسباب فساد القلب، فهي لا تحصُل إلاّ إذا اعتقد المرء بأنّ الله غير قادر على تحقيق ما يرجوه منه، أو أنّ قوة الله العليا مساوية لقوة الخلق، أي أنّ قلبه لم يؤمن حق الإيمان بالقدرة الإلهية، فوقع فريسة لهذه الأوهام… 

ما عزَّ عليك بقانون الأرض، فاطلبه بقانون السماء، وما دام المؤمن قد أخذ بالأسباب وتوكَّل على الله، فليثق أن الله يمِدُّه بما هو فوق الأسباب "إنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون". ثمّ يأتي الجواب لِما يدور في ثنايا قَلبك، ما جعل من عاطفتك لهيبًا فأجبرك على الطَلب، ثمّة صوتٌ عميق يناديك: "فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ "، قبلةً ارتضاها الله لك وارضاك بها، فإذا عرف القلبُ قبلته سكن واطمأنّ، وسار لها ساعيًا صادقًا مُخلصًا، فالله هو من يولّيه ويتولاّه، هو الذي يرى تقلّب الأبصار التائهة في سمائه، يرى رحلة بحثك وسعيك توقًا وإيمانًا، فيلهمك الخطوات في الطّريق ويكون لك مؤنسًا كريمًا، "أقْبِل وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِين"، والزم باب مولاك بِمَجيء "عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ".

فالله سُبحانه وتعالى يعلم بِكلّ ما قُمت بِه التزاما لطاعته ولا يجهل عاطفة قَلبك التي دفعتك للإلحاح المؤدب على غايتك، فاصبِر ولا تتعجل النتائج "وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ"، واعلم أنّ تحقيق ما تتمنى ليس بِعسيرٍ عليه جلّ في علاه، وهو يشفقُ عليك من تيهك، من فوضاك، من ألمِك ومن خوفِك المُتنامي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.