شعار قسم مدونات

معتقلون خلف قضبان

blogs السجن

بالأمس قرأت خبراً عن رجل قضى ما يقارب الثلاثين عاماً خلف قضبان السجن، ليتبين لاحقاً أنه سُجن ظُلماً وبُهتاناً، ثلاثون سنةً قضاها يتأمل جُدران المعتقل، مُسائلاً نفسه عن الخطأ الذي ارتكبه حتى انتهى به الأمر يحفظ سرائر كل أهل السجن، يستقبل أحدهم ويُودع آخر، يستذكر السنوات القليلة التي عاشها بين أحضان مدينته وعائلته، حينها جال في بالي أسئلة لم ألقَ لها جواباً واضحاً، ولكن أكثرهم تعجباً كان عن حاله بعد أن خرج، كيف سيرمي ثلاثين سنةً مضت ليعيش في عالم صار جديداً كليا عليه، وأعتقد.. أنَّ كثيراً منكم يسأل ذات السؤال، حتى وإن جاءت الإجابة من الشخص نفسه، لكنّه يصعب علينا تصديق أن أحدهم قد يمر بمثل هذا الجلل ومن ثم يُكمل حياته كأي إنسان طبيعي آخر.
 
وبعد بحثٍ مُطول، حاولتُ أن أجمع إجاباتٍ بسيطة لقارئيها لكنها عميقة جداً ومخيفة لمن عايشها، فهي تمر بأطوار متتالية تُلازم كل معتقل أو سجين، ولن أتكلم هنا عن المسجون بتهمة ثابتة، إنما عن المعتقلين قسراً، فقد كثُرت في الآونة الأخيرة الاعتقالات التعسفية دون أدني سبب، كثر الظلم والخراب وانعدمت الإنسانية بعد أن جارت الحروب على معظم البلاد.
 
فإن تحدثنا بدايةً عن الأيام الأولى للمعتقل التي تتسم غالباً بالصدمة والخوف من المجهول والاذعان الكامل لكل المخاوف التي ترافق عقل المعتقل، وفي حالة التعذيب أو العمل الشاق الذي يُرمى على عاتق كل المساجين فقد تجد اختلاف ردود الأفعال أمراً لافتاً، فمنهم من يستجيب بشكلٍ كامل معلقاً آماله على عفوٍ فُجائي أو نهايةِ حرب قريبة، باذلاً قُصارى جهده في نيل استحسان السجّان حتى يحصل في آخر يومه الطويل على قطعةِ خُبز يُسكت بها جوعه، فبعض الحالات التي قرأت عنها كان على السجين أن يتشبث بأدنى أمل يُشعره بالخلاص.

 

الإنسان بطبيعته إن زالت عنه القيود وسنواتٌ هائلة من الضغط والوحشية، فلن يكون من الصائب تركه دون متابعةٍ معنوية ونفسية، فمن الصعب عليه التحرر من كل ما عانه سابقاً بمفرده

وحتى آخر لحظة يظن أن الخاتمة ستؤول إلى نهاية حسنة، ويمكن أن يطلق على هذه المرحلة بمرحلة "الوهم" الذي يُسيطر بشكلٍ كامل على العقل رغم بشاعة الواقع وقلة الراحة والمأكل وانعدام النظافة الذي يؤدي الى أمراض لا خلاص منها أحيانا إلا بالموت، ورغم الأملِ المرافق للشهور الأولى إلا أن فكرة الانتحار غالباً ما تُراود أغلبَ المعتقلين، فالأوقات الطويلة في سجن بمعنى الهلاك تجعل كل ثانيةٍ منها عمراً من التفكير، فبعضهم يرى أن حياته اليوم بلا معنى، ومع ما يلقاه من عذاب وألم.. فالانتحار هو السبيل للنجاة من أبشع واقع، ثم تجده في وقت آخر يفكر في أطفاله وضحكات زوجته كأملٍ يستحق بذل طاقةِ الاحتمال حتى آخر نفس، حتى تصل لهفته واشتياقه إلى حد ينهكه كليا ويستنفذه، ثم يعود بعدها الى حالة التبلد التي صارت تتلبسه بعد أن اعتاد على كونه رقم أو اسم مدون في قائمةٍ على حدِ ظنه.. تجعله لا يرقى لمستوى إنسان، فهو مُعذبٌ مُهان لا يحصل على أدنى حقوقه من نومٍ مُريح وأكلٍ يسند جسده النحيل الذي هده العمل الشاق والإحساس بكونه لا شيء.
   
حتى أن حالات التبلد تلك قد تصل بالمعتقل أن يشاهد أصدقاءه ممن شاركوه الاعتقال يُعذبون ويُقتادون كالبهائم، لكنه لا يشعر بأي شفقة عليهم، ذلك أن الحياة الطويلة في سجون كهذه تعلمك جيداً كيف تعتاد على الألم والوحشية بأبشع صورها، فتجد نفسك قد تحولت من إنسان في بداية اعتقالك، إلى قطعة جسد بلا أي إحساس يذكر اتجاه من يهمك أمرهم.

 

ومما فاجئني أنه في مرحلة ما قد يجد المعتقل سبيل خلاصه في عدة أمور منها الدعابة، فتعتبر الدعابة أداة يستخدمها الكثيرون في نضالهم للبقاء أو حتى لتجاوز مواقف بسيطة منها المحرجة ومنها المؤلمة ويعلو عليها بطريقة ذكية، لكنه من المدهش أن يلجأ اليها سجين يعايش أقسى أنواع المعاناة، وهذا إن دل فإنه يُوضح لنا جيداً كيف أنَّ الانسان قادرٌ على احتمال شتى أنواع المعاناة بحيل بسيطة يسلي بها نفسه ويتغلب على مواجعه، بل وتجعله شدائده فخوراً بنفسه وبقدرته على المضي قدماً.

   undefined

 

وكما تلعب الحياة الروحية دوراً واضحاً في نفسية المعتقل، فقد يُخبرك بعضهم أن تعلقهم بلحظات عاشوها مع محبوبٍ كافية بأن تُؤنسهم وتُشتت أوجاعهم، فمن لم يتبقَ له شيءٌ يرنو إليه، ما زال يشعر بسعادةٍ لحظية قصيرة حين تراوده أيامه مع محبوبه.. وهذا مما نراه أيضاً في حياتنا العامة، حينما يتعلق المحب بذكرياتٍ عاشها ولا يكف عن أمل تكرارها ولو بعد سنوات.

أما الطور الأخير إن كتب للمعتقل أن يشهده، فهو ما بعد الإفراج عنه، فبديهياً يمكننا أن نقول أن السرور والغبطة سيتملكانه ازاء الافراج، أما نفسياً فغالبا لن يشعر المفرج عنه بأية مشاعر تذكر، فبعد سنينَ معاناةٍ وانتظار الحرية، ستصبح هذه اللحظات مُجرد حلم لا يُصدق أنه واقع يعيشه، وسيصاب بما يقُال عنه "اعتلال الشخصية"، فهو لن يبدي أيّة مشاعر سرور، إنما خذلانٌ واضح لبعضهم، فمنهم من كان يتطلع للإفراج ليعود لوطنه أو بيته أو عائلته، فيخرج ليجد أن اشخاصا جدد سكنوا منزله، وشخص ما فُقد إِثر الحرب وأخر قتل، لذا سيبدو كل شيءٍ تقريباً غير حقيقي وباهت كأنه حلم.

ولا بُد من ذكره، أنَّ الانسان بطبيعته إن زالت عنه القيود وسنواتٌ هائلة من الضغط والوحشية، فلن يكون من الصائب تركه دون متابعةٍ معنوية ونفسية، فمن الصعب عليه التحرر من كل ما عانه سابقاً بمفرده، فبعد الحرية يظن أن باستطاعته استخدام حريته بلا قيد أو حاجز، وينتقل من دور الضحية إلى دور الجلاد. وحينها لابد من إعادة هؤلاء إلى الحياة الحقيقية، ولو تطلب الأمر بطئا شديداً، فإن الفساد الناجم عن التحرر المفاجئ ستكون نتائجه كارثية لمن عانى ضغطاً عقلياً ونفسياً وجسدياً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.