شعار قسم مدونات

عُمان.. أرض الطمأنينة

blogs سلطنة عمان

في الأوطان دفئ لا يعرفه إلا من اقترص من برد الغربة، وفي الأوطان عشق لا يعرفه إلا من هجَر مكابرًا أو هجّر مرغومًا عنه، وهواؤك الذي استنشقته في وطنك لن تنساه أبد الدهر، ولن يعوضه هواء العالم ولو اجتمع.. تقف وحيدًا تملك مئات الكلمات والابتسامات، ولكنك معزولًا في فراغ يسكنه صمت بصوت الشتات، فأنت وترٌ مكسور، منفردٌ عاجزٌ عن الغِناء، أو حتى البُكاء، تتساءل عن حريق متنامي يمزِّق تلك البقيّة من أوصالك، لكنك تحاول أن تفرّ لتُهرول بجنونٍ نحو حنين رفقاء الحياة الطيبة..

 

ونحنُ؟.. نحن أوتارٌ متفرقه، لا نستطيع إنتاج لحنٍ أو حتى بقايا لحنٍ إلا إذا تجمّعنا، وتكاتفنا، ليرى العالم ألحاننا بدلًا من أنه ينظر إلينا على أننا أوتار مبعثرة في جنبات عودٍ خَرِب.. عن أبو برزة رضي الله عنه فيقول: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَسَبُّوهُ وَضَرَبُوهُ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ عُمَانَ أَتَيْتَ مَا سَبُّوكَ وَلَا ضَرَبُوكَ. "رواه مسلم".. يقول القرطبي رحمه الله: يعني: أن أهل عمان قوم فيهم علم، وعفاف، وتثبت، والأشبه: أنهم أهل عُمان التي قِبَلَ "أي: ناحية" اليمن؛ لأنهم ألين قلوبًا، وأرق أفئدة..

في عُمان لم أشعر بشيء من الخوف أو الغربة، ولم أشعر بالوحدة كما لو كانت وطنًا ثانيًا لي، في الانتقال تجدهم لك سندًا تتكئ عليه، وصدرًا رحِب تأوي إليه، ونفس صادقة تصغى إليك وتبوح إليها.. إن سرت في شوارعها استقبلوك بالترحيب، وإن تعثّرت مدوا لك أيديهم عن طيب نفس، وإن سألت أجابوك بكل صدق، حتى أنهم يقضوا لك حاجتك إن استطاعوا فعل ذلك، لا يتأففون من كثرة الأسئلة بل يجيبون بسعة صدر وطيب خاطر..

في الصفوف الأولى من المدرسة يعلمون الأطفال أنه "لا تتحقق الأخوّة الإسلامية إلا بترك التعصُّب، سواءً كان لوطن أو لقبيلة أو للون، والبعد عن عوامل الفرقة وأسبابها"

في رحلتنا مررنا على معرض الكتاب، في بهو المدخل هناك تراحيب عريضة وأيادي ممدودة للمساعدة، ووجوه مبتسمة تودّ عِناقها من شدّة طيبتها وصفائها، وكأن جميعهم لبسوا نفس الوجه الذي لا تفارقه البسمة ولا تحل عن سما شفتيه الضحكة النابعة من قلوبهم النقيّة..

في المذياع سمعنا المنادي ينادي عن كم المفقودات، من ذهب إلى أموال وأيضًا مفاتيح سيارات باهظة الثمن، الأطفال آمنين، والأباء مطمئنّين، وكل من في الساحة مؤمّنين، يذهب الطفل ويعود، وإن غاب ذهب إلى المذياع فينادى على ذويه ليأتوا له. الأمور بسيطة رغم قيمتها، وقيمتها في بساطتها، وجمالها في قيمتها وبساطتها..

في عُمان شعب إن وضع على الجرح طيّبه، وإن ولج الصدر أثلجه، وإن رآه الملكوم طاب وعوفيَ، وإن تحدث إليه العليل سلم وبرِئَ ، وإن لجأ إليه الخائف أُمّن ونجى، وإن حكّمه المظلوم انتصر ورضي، كل الأمور تسير كما يريدون لها أن تسير، ليس لقوتهم المهيبة ولا لغلظتهم الشديدة، ولكن لحكمتهم البليغة، وقلوبهم الصافية.. شعبٌ يعلم أن الجميع سواسية، لا فرق لأحدٍ على أحد..

حفظوا لبلادهم سلامها بعدلهم فحفظت لهم بلادهم أمنهم واستقرارهم، لا شرطيّ يتكبّر ولا قاضٍ يمشى وعنقه يكاد يناطح السحاب من الكبر، في الملبس واحد، الرداء يلبسه الفقير قبل الغني ومن نفس الكأس يشربون، يحق للفقير ما يحق للغني والوزير.. وللحق أنه ليس بينهم فقيرًا، أو أني لم أرى ذلك لتشابههم الشديد!.. إن البلاد تحفظ لشعبها أمنهم إن هم حفظوها بعدلهم، وتضيّق عليهم عيشهم إن ضيقوا عليها واختنق الحق فيها، وإن استحلوا الحرمات أذاقتهم الأمرّين، مرٌ يتذوقنه فيها، وعلقمًا يتذوّقونه في غربتهم إن تركوها ورحلوا..

شيء آخر يحدث في الصلاة، يظهر مع تكبيرة الإحرام، يجعلك تقف مليًّا معه لتسأل كيف وماذا ولِمَ؟، المذاهب على رغم تنوعها إلا أنها لم تفرِّق صف واحد، الجميع متراصّين، جنبًا لجنب، كل على مذهبهِ.. قبول الرأي الأخر، ثقافة الاختلاف، تنوع في مهارات تقبّل الآخر!.. الصف واحد ولكن الجميع مختلفين في مذاهبهم وطوائفهم، منهم القائم المتربع ومنهم القائم المرتخي، ولا يفرض أحد رأيه على أحد، لكلٍ وجهةٌ هو مولّيها، لا اعتراض ولا جدال في شيء لا فائدة من الجدال فيه!.

في الصفوف الأولى من المدرسة يعلمون الأطفال أنه "لا تتحقق الأخوّة الإسلامية إلا بترك التعصُّب، سواءً كان لوطن أو لقبيلة أو للون، والبعد عن عوامل الفرقة وأسبابها".. فقه ترسيخ مفهوم التكاتف والمعايشة وتقبل الآخر كما هو، ترسيخ مفهوم الاختلاف لا الخلاف، تقبّل الآراء لا المماطلة والمجادلة وإسدال النصح على كل من نرى ونقابل.. البلاد كالأم لأبنائِها تحنّ دائمًا، وتعطي مهما فعلوا بها لا تمنعهم، ولكنها تحاسبهم على أفعالهم المشينة، بطرقها المختلفة، كيفما شاءت ووقتما شاءت بالطريقة التي تشاؤها..

في المطار مرة أخرى، تنظر نظرات الفراق، ولا تدري أتودعها هي أم تودع أبناءَها، أتودع خضرتها ونضرتها ونقاء هواءها؟، أم تودع أهلها وطيبتهم وسماحتهم؟.. كل هذا يدور في ذهنك وأنت لا تفهم سوى أنك فقط تودّع عزيزًا وكأنما كبرت وترعرعت بين أحضانه، وعمّرت معه وعاشرت حركاته وسكناته، وفي النهاية تذهب من البلدة الآمنة المطمئنة دون أن تدري هل ودعت حقًا أم أنك ذاهب على أمل اللقاء ثانيةً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.