شعار قسم مدونات

الموت الذي نفر منه

BLOGS-- بعد الموت
حدَّثوني فخدعوني.. قالوا عنه ذلك الشبحَ القاتل، يأتي على حين غِرَّة، فينسف الحياة.. كريح صرصر، لا تبقي للفرح بقلوب الأحبة موطنا وليست تذر.. تحِلُّ الصيحةُ الأخيرة، لتُنَفِّذ أمرَ ربها، كلمح البصر. كأني بها وجهٌ أسود هازئ بعقول مخلوقات الطين، التي أدمنت لعبة الخلود حتى كادت تُصَدقها وما هي منه بمُفلتة وإن طال لها من الحياة المستقر. تجدها تسعى حتى تكاد تنسى، ولا تفتئ تفتر وتغتر كأن ليس لها من المتاع الزائف مفر.

حدَّثَني الصمت، على حين غرة، يوما بإحدى المآثم، هازئا. "من ذا يجعلك توقنين، بأن لن تكوني الملتحق الموال؟".. ارتعَشَتْ لِهَمسِه الجوارج وسرى نفْث الفكرة الرهيبة بالجسد مباغثا خوضه بين أمواج الحياة. والحق أن صمتي لم يكن إلا صاحب حق، ونحن المخدوعون، راقنا المكوث واعتادت ألسنتُنا صياغة التعازي كأن لن يحين علينا الدور. نسمع أخبار الرحيل تترى، ولا نعيرها من الاهتمام غير دقائق من حزن بانتظار الوجهة الموالية لتعازينا ومجاملاتنا الرسمية الباردة، ناسين أو متناسين بأن لا ورقة تضمن لنا في القادم القريب أن ننجو من الانتقاء لرحلة الأرواح الخالدة لبرزخ مكوثها، بعد آخر مرة تلونا فيها بخضوع -صادق أو مصطنع- عبارتنا الروتينية "عظم الله أجركم". ما أبأس حالنا إذ نغفل، فلا نعد العدة ولا نستعد لإكرام ضيف الموت. ننشغل بالحزن على راحل وسابقه، وندمن مهمة الأسى كأن لن نكون ضمن الصف المقابل أبدا؟..

لا عجب أن تَفِر حروفي كل مرة، وأنا أعزم أن أتأمل الموت، كما فراري من فكرته على قيد الحياة. في الوقت ذاته الذي أسلوها أن تلزم أعتاب فكري، تَشَبُّثَ نفْسي بالأحبة ومواطن فرحي من العالم ذا. ها أنا ذا كل مرة أرجوها أن تبتعد في الآن ذاته الذي أرجوها أن تقبض قبل أرواح من سكنوا ذا القلب، روحي. وأمكث أقلب وأتقلب بين أفكاري المتناقضة والمتنافرة، ولا عجب.. من ذا يهزم قبل الموت شبحه ؟..

 

مخلوق الطين الضعيف، حين ينسى أو يتناسى الزائرَ المتسلط القادم بعد لحظات أو سنوات، ليخدع نفسه. يحسب سَعْيَه الحثيث المستميت لمصالحه عليه بالنفع عائدا

إن أسوأ ما في الرحيل، كونك لا تدري مصير اسمك الذي ذُكِر مرارا بحضورك، بين طي الغياب، ووَقْعَ خطاك على ثرى الكون، حين تهُبُّ الريحُ لتخطِف آخر نسمة من روحك. لا تدري، هل ستزملك باللحد دعواتُ من زعموا حبك يوما، وصدقاتُ من جعلوك توقن بأنك بضع منهم، وشهاداتُ الحب والوفاء لمن عاهدوا على السير بخطى ثابتة على درب الإخلاص..

 
دعك من كل هذا، فإن الذكر ذكر السماء يا صاح، وبالإعداد فانشغل، لعلك تظفر بوفير الإمداد.. فقد يضحك في مأثمك، الرفيق، وقد ينسى حزن فراقك القريب مع انتهاء الجنازة لو تعقل. هكذا تتبعثر في الفكر الخواطر أمام هيبة الحدث،.. ذاك الذي لا تدري على أي هيئة اختارته لك مشيئةُ ربِّه.. فتحزن على فقيد المرض، وتفجع لميت الفجأة، وتئن للراحل إثر حادثة، في الوقت ذاته الذي لا تتصور فيه نفسك واحدا منهم لا محالة.

 
لست أحاول امتهان البؤس بين طي الكلم، لكني أحاول إيقاظ نفسي اللوامة التي راق لها المكوث بين ركام الغفلة لأجَل غير مسمى، كأنها أخذت يوما تذكرة مجانية للخلود بسجن الدنيا، وليست تملك بكل حال أن تفر من مسحة الفناء التي فطر عليها الخالق الكون، ليجعل من ذلك صورة من صور عظمته. هاته الصورة التي تكفي لتحطم أغلال الحيرة المقيدةِ عقولَ السائرين الباحثين عن اليقين. صورة، تكفي، لتلجم أفواه المتشذقين من الملاحدة الجاحدين لقدرة ووجود الخالق المعجز، وإن أنكروا..

 
إن مخلوق الطين الضعيف، حين ينسى أو يتناسى الزائرَ المتسلط القادم بعد لحظات أو سنوات، ليخدع نفسه. يحسب سَعْيَه الحثيث المستميت لمصالحه عليه بالنفع عائدا، يُضَيّْع بوصلة السير، ويقنع نفسه برحمة الله الشاملة، ناسيا ميزان العدل المقام يوم يستحيل الفرار، فلا يدري عَبْدٌ أبالرحمة قد حظا، أم بشديد انتقام.

 

يا موت خذ من سطوتك علينا ما تشاء، لكن لا تأتنا بربك ضيف غفلة، لا عدة نأتيك بها للعبور ولا أثرا نتركه لتخليد المرور. كن ضيف رحمة، فإننا مهما أنكرنا، كنتَ لنا دوما ذلك "الموت الذي نفر منه".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.