شعار قسم مدونات

"مجتمع الصغار" الذي أرعبني رغم كل شيء!

BLOGS أطفال

أُنزه صغيرتي ذات الأربع سنوات في ملعب صغير بمحيط منزلنا يجمع الأطفال من كل الأعمار والجنسيات -وهذا تنوع مفيد أفادها بالفعل ورحبت به-، في كل مرة أكون معها لا ألتفت إلا إلى صغيرتي عند احتياجها لي وأغلب الوقت أتركها تلعب مع رفقائها دون تدخل مني، وأنأى بنفسي مع موسيقاي أو قراءاتي أو مواقع تواصلي، إلا هذه المرة لا أذكر تحديداً ما الذي لفت انتباهي أو جعلني أقرر أن أراقب مجتمع الأطفال ذاك وهما يمارسون الشيء المحبب لديهم بل الأحب على الإطلاق.. اللعب ببراءة. أو هكذا كنت أظن..

اتضح الأمر لي رويداً رويداً؛ وأنا أنظر مشدوهة مما حدث ويحدث أمامي، ولا أصدق! دعوني قبل أن أكمل أخبركم شيئاً أولا، -أعلم أن البعض منكم الآن ربما يسب مقاطعتي لسردي حنقاً لكن يجب أن أوضح هذا الشيء على أية حال-، دعوني أوضح أن منطقة ألعاب الأطفال مجتمعٌ حقيقي مصغر جداً لآخر نعيش فيه أكبر بكثير وأوسع وأشد تنميطاً ومحدداً لقوانين وقواعد عيش الحياة أو قل لعبها. لكنه لا يزال مجتمع يجمع فيه كل الطبقات والشرائح؛ كل الفئات والجنسيات واللغات والنفوس المختلفة، ويعد هذا المجتمع -أقصد مجتمع الصغار- أكثر أريحية وبساطة ويحتفظ ببرائته أو هذا ما كنت أعتقده طوال حياتي، إنها تلك المثالية الخرقاء التي لا تزال تداهمني من وقت لآخر رغم ما مررتُ به؛ وترطمني في جدار الواقع!

يتكون هذا المجتمع الصغير من مجموعات لا أملك مسمى لهم لأنني لا زلت لا أريد أن أنزع عنهم براءتهم رغم ما شاهدت وأرعبني حقاً، فهناك الأصحاب أو (الشلة) لا يُدخلون إليهم أحداً جديداً ولا يخرج منهم أحد مقصورة على أشباههم، مغلقة عليهم كأنهم جيتو صغير، لا أعرف من أين لهم هذا القرار، لكن من الواضح أنهم قد اتخذوه والجميع وافق. وهناك المسالمون الذين يمشون داخل الحائط اختراقاً لا إلى جانبه، يخافون من أي شيء وكل شيء؛ يهابون الاحتكاك بنظائرهم أو الاعتداء منهم، ويلعبون بعيداً بعيداً جداً عن المنطقة المتأججة ضجيجاً وضحكا وبكاءاً وهؤلاء ليسوا كثيرين بعد كواقعنا الكبير، وهناك أيضاً الطيبون الودودون دائماً مع الكل الذين لا يرغبون في خسارة أحد حتى نابذيهم؛ لا أعلم من أين لهم القدرة على الاستمرارية!

هناك المتكبرون والمغرورون والواثقون من أنفسهم، هناك أيضا الهادئون والخبثاء والفضوليين، والمتدخلون في شئون الآخرين كالجيران الذين تجدهم عند بابك يتبعون أعينهم وآذانهم داخل حياتك

هناك فارضي أنفسهم كقائدين لفرق الأطفال الأصغر أو نفس العمر، يستخدمون عصاة السلطة الخفية والأطفال يوافقون أو يرضخون ومن يرفض فهو منبوذ خارج هذه الشلة؛ قد تظنون أنني أبالغ، أنا لا أبالغ قد رأيت زعماء ديكتاتوريين صغار، المشهد مرعب.. أعلم! وهناك أيضاً الذي يعتبر نفسه الكبير بالنسبة للصغار، الأبوي أو الوصي، شيخ القبيلة أو العشيرة أو القاضي، يلبس رداء النضج رغم طفولته الساذجة الواضحة، يدّعي أنه يُحكّم إذا شجر بعضهم ولكنه للحظات مال إلى الفئة التي سيأخذ منها مصلحة، سمعته يتفق معهم بعد أن أنهى الشجار بأن يتركوا له إحدى الدراجات ليلعب بها!

لم يخلو المشهد بالطبع من الفتيات اللاتي يستعرضن جمالهن أمام بعضهن في تحدَي وتقييم غير مصدَق لمَن هن في مثل سنهن، هذا إلى جانب التحدث بلا توقف بتاتاً لدرجة أنني -وأنا امرأة وأعلم مدى احتياجنا للكلام- ظننتُ أن سقف حلوقهم ستسقط! هناك نوع آخر لم أغفل عنه بين الأطفال وهم المملون والملولين، الذين يجعلونك تعاني وأنت لا تعرف كيف ترضيهم، وتخسر وقتك معهم دون إضافة حقيقية لهم ولك، وهناك كذلك ثقلاء الظل؛ آهٍ من ثقلاء الظل كان لعبهم بالفعل ثقيلاً وسخيفاً ووجدتُ مَن أعرفهم فيهم.

وكما أن هناك المتكبرون والمغرورون والواثقون من أنفسهم، هناك أيضا الهادئون والخبثاء والفضوليين، والمتدخلون في شئون الآخرين كالجيران الذين تجدهم عند بابك يتبعون أعينهم وآذانهم داخل حياتك، مثلهم كانت تلك الصغيرة ذات السبع أو الثمانية أعوام التي باغتتني بأسئلتها المتلاحقة لماذا أُلبس ابنتي هذا وليس ذاك؟، ولماذا نأتي في هذا الموعد وليس قبل ذلك؟، ولماذا لا أعمل؟ ولماذا..؟ ولماذا..؟ التي لا تنتهي؛ لدرجة أربكتني وأغاظتني وأثارت حفيظتي وأنا التي بطبعي هادئة!

وأيضاً بالطبع هناك المتنمرون دائما الذين يمارسون تنمرهم على أقرانهم، حيث كان أحدهم يخبر آخر ألا يلعب مع ثالث لأنه..، لم أسمع ما أخبره به لكن ثلاثتهم سمعوا ومضى الثالث منكسراً يحبس دموعه بعنف لأن أبيه أخبره أن الرجال لا يبكون، ظننتُ أن صدره سينخلع من الكبت. وهناك العدائيون بدون سبب العنيفون ضد كل أحد وكل شيء، يكسرون ويعتدون دائما على الآخرين، مدعين القوة والبلطجة إنهم يذكرونني وأنا أشاهد ما يفعلون -قبل أن يتدخل حارس الملعب- برجال الشرطة في بلادنا المستبدة أو برجالات العصابات إلا أنه ما يزال يتم ردع هؤلاء الصغار، فهم ليسوا بعد دون رادع كهؤلاء الرجال؛ حتى القانون لا يملك سلطة أمام سلطاتهم الغاباوية!

ورأيتُ أيضاً هناك بالطبع المضطهدين من قبل المتنمرين والعدائيين وأصحاب الشلل، الذين لا يفعلون شيئاً لأنفسهم وينتظرون تدخل القوى الكبرى المتمثلة في الأهالي، لكنني أيضاً رأيت المقاومين لهؤلاء العدائيين المتنمرين الذين يعلمون أن مقاومتهم لن تمر بسلام وأن العداء سيزداد وكذلك إصاباتهم لكنهم يكملون المقاومة لأنها هي التي ترسم لهم مكانتهم وتربك الطرف المعتدي كما رأيت ذلك في أعينهم.. وفرحت انتصاراً.

هناك مشهد لن يبرح مخيلتي مطلقاً؛ كان أحد الصبية ربما في الحادية عشر من عمره يقبض على رفيقه في الملعب لأنه أحدث كسراً في دراجته (وكأنه ينفذ ضبطيته القضائية بيديه دون الاحتكام للكبار)، لا أعلم إلى أين يأخذه لكنني أحسست أنه سينفذ فيه حكماً، أخذت ألتفت حولي هل أنا بالفعل في ملعب للأطفال حديثي العهد بالحياة أم أنني في فيلم فانتازي!

صحيح أننا نتعامل الآن مع كل أنواع البشر الجيدون منهم والحثالة؛ الإنسانيون والمجرمون، لكننا لم نستبق أعمارنا لهذه الدرجة وبهذه السرعة
صحيح أننا نتعامل الآن مع كل أنواع البشر الجيدون منهم والحثالة؛ الإنسانيون والمجرمون، لكننا لم نستبق أعمارنا لهذه الدرجة وبهذه السرعة
 

بالطبع تدخل أحد مُحكمّي النزاعات (أحد الأباء الذي تصادف وجوده في المنطقة يلاعب ابنه) والذي تدخل ليفض اشتباكاً حقيقياً بين بعض الصبية نشب من أجل فرض سلطة أحدهم على الآخر؛ والأخير رفض أو شيء من هذا القبيل! لتأتي أم بعده تستعرض سلطتها؛ لترفع ظلماً وقع على إحدى الفتيات؛ البعض تنمّر عليها وردت فعل الفتاة كانت ثقيلة عليهن أيضاً فاحتارت المُحكّمة أتنصف الفتاة أم أنها أخذت حقها بالفعل؛ لكن الفتاة بكت كثيراً خلال الثلاث ساعات التي أمضيتهم في منطقة الألعاب التي أتوجس حذراً حين أطأها كل مرة.

كل هذا رأيته في يوم واحد فقط عندما ذهبت مع صغيرتي إلى مكانها المفضل الذي تُعايشه دون انتباه مني، وأنا التي ظننت أنه من المفترض أن يكون أفضل مكان في العالم القبيح خارجاً والأكثر مرحاً وبراءةً وأماناً لها ولي! صحيح لقد تذكرت أمراً هاماً وأنا أسرد لكم ما دار في مجتمع الصغار؛ فرغم ما رأيت من صدمة إلا أنني لم أرى بينهم منافقاً واحداً، أمر غريب.. لكنه أراحني بعض الشيء. لكنه يظل مجتمع مُرهق ومرهَق، أصابني بغصة شديدة؛ أليس مبكراً على تلك البراءة كل هذا العبء والثقل؟!

نظرتُ لطفلتي كيف ستتعاملين مع كل هؤلاء؟ كيف ستواجهين الحياة أمامهم ومعهم؟ أعلم أن كل طفل عليه أن يشتدّ عوده ويخوض تجاربه لمواجهة قساوات الحياة، وأعلم أن كل طفلٍ من هؤلاء قد أتى بما يحمله من خلفيات البيت والبيئة والتنشئة والبعض أتى من مناطق النزاع والحروب والأذى، وأعلم كذلك أن التطورات الزمنية تخلق أجيالاً تختلف كلياً عن أجيال سابقيها، لكن في نهاية الأمر الطفل يبقى طفلاً وإن تحولت شخصيته وإن تبدلت حالته، لكنني لم أرهم كذلك راقبتهم مرتعبة.. إذ أنتم الآن هكذا فماذا ستكونون عندما تصبحون في أعمارنا؟!

صحيح أننا نتعامل الآن مع كل أنواع البشر الجيدون منهم والحثالة؛ الإنسانيون والمجرمون، لكننا لم نستبق أعمارنا لهذه الدرجة وبهذه السرعة، لم نفقد البساطة والمرح والبراءة قبل أوان ذلك على الأقل.. ما بأيدينا حيلة.. فليساعدكم الله أيها الصغار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.