شعار قسم مدونات

"فادي البطش".. لماذا لا ترحل بهدوء؟!

blogs فادي البطش

سقط الشيخ فجرا فلوثت أوحال الشارع التي لم تجففها أشعة الشمس بعد ثوبه الأبيض الناصع، وتفجرت دمائه على إثر رصاصات غاضبة اخترقت جسده المنهك من طول السفر والاغتراب عن الأوطان، لماذا يعمد إذا هؤلاء القتلة المحترفين إلى اغتيال "شيخ مسجد" بسيط الحال كان يتوجه لإمامة صلاة الفجر بمسجد المنطقة؟ كان هذا هو السؤال الذي قرع أذهان كل من شاهد الحادث أو سمع الخبر لأول وهلة.

بغرض السرقة! ربما.. لكن كم من الأموال كان يحملها "الشيخ" في جيبه وهو ذاهب إلى الصلاة؟ ربما ثأرا أو انتقاما من أحدهم.. لكن "الشيخ" كما يشهد جيرانه خلوقا مؤدبا حافظا للقرآن لا يؤذي أحدا، لم يكن يعرف أغلب من سمع الخبر شيئا عن الرجل فكان وقعه صادما في البداية، لكنهم حينما عرفوا وفهموا كانت صدمتهم أشد..

فالشيخ لم يكن إماما قارءا حافظا للقرآن فقط، بل كان مهندسا حاصلا على الدكتوراه في مجال الهندسة الكهربائية من أكبر جامعة في (ماليزيا)، ولم يكن عالما باحثا فقط، بل هو أول عربي ينال أعلى جائزة من الحكومة الماليزية عن أبحاثه الهامة، ولم يكن شيخا مهندسا عالما باحثا فقط، بل كان ناشطا فلسطينيا مشرفا على جمعيات خيرية في (ماليزيا) تهتم بالقضايا الإسلامية وعلى رأسها قضية (المسجد الأقصى) المبارك، ولربما كان شيئا آخر لم يكشف عنه الستار بعد.

الصدمة التي سببها مقتل "الشيخ" للكثيرين لم تكن بسبب فكرة الاغتيال أو الغدر بإنسان برئ في بلد هادئ كماليزيا، فمقتل الأبرياء في كل مكان ببلادنا المنكوبة أصبح خبرا يوميا معتادا لا يشكل أي صدمة، ولم تكن الصدمة كذلك بسبب استهداف مخابرات عاتية لشخص أعزل بسيط يبعد عن مقرها الرئيسي بآلاف الأميال فهذا ديدنهم ضد من يظنون أنه يشكل عليهم تهديدا ما، لكن الصدمة الحقيقية التي لم تخطئ ضمائرنا كانت (فادي البطش) نفسه..

كدنا ننسى أن هناك من هم مثلك يعيشون بين أظهرنا وظننا أن أمتنا قد خلت من السائرين بهمة ليلا في هدوء نحو تحقيق هدفهم السامي

كان يكفيك يا (فادي) أن تعيش حياة هانئة هادئة كشخصيتك تعمل أستاذا في الجامعة وتتقاضى راتبا تعيل به أسرتك في الغربة، وإن أردت مزيدا من ثواب فكان يكفيك جدا إمامة الناس في المسجد وتعليمك إياهم القرآن الكريم، كل هذا لم يكن ليستفز (الموساد) فيسيروا خلفك الجنود المجندة التي لا تهدف إلا إلى إزهاق روحك، فكم من المشايخ أعظم منك لحية وأوسع منك جلبابا وأفصح منك لسانا يسبحون بحمد أولياء أمورهم ويطوفون حول رغباتهم ويسعون ذهابا وإيابا بين سياساتهم، فإذا ذكرت عندهم قضية "القدس" أو "فلسطين" اشمأزت قلوبهم وتغيرت وجوههم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون.

لماذا حتى لم تفعل مثلنا فتغتال ضميرك الذي يحمل القضية بيديك قبل أن يكون هو سبب في اغتيالك؟ لماذا لم تتبعنا في الطريق الذي انحرفنا فيه عن قضايا كنا نؤمن بها يوما ما، فبتنا نسعى في ممرات الفئران مذعورين لاهثين فقط خلف لقمة العيش في بلاد الغربة؟ أنت حر في اختيارك إذا.. لكنك وإلم تكن قد أزعجتنا في حياتك لأننا لم نكن نعرفك أصلا ولم نسمع عنك قط، فإن موتك قد أزعج ضمائرنا التي ظنناها راقدة بسلام في قبور اليأس والفتور.

.
أنت حتى لم تترك لنا فرصة تجاهلك أو نسيانك فقمت فينا خطيبا من قبرك الذي لم تسكنه بعد -حتى كتابة تلك السطور- حين بدأ الناس ينشرون عباراتك التي كتبتها على (تويتر) الذي لم يتابعك فيه إلا القليلون، تذكرنا بقضية (القدس) والشهداء وحق العودة فتصحح بوصلتنا التي أعيتنا حتى تمكنا أخيرا من حرفها عن الطريق القويم. كدنا ننسى أن هناك من هم مثلك يعيشون بين أظهرنا وظننا أن أمتنا قد خلت من السائرين بهمة ليلا في هدوء نحو تحقيق هدفهم السامي، حتى إذا اغتالتهم أشباح الغدر والخيانة تحولت أرواحهم إلى براكين ثائرة تلقي بالحمم في وجوه الكسالى القاعدين فتبدد لهم شيئا من ظلام الدنيا وتبث فيهم روح الأمل من جديد.

إرحل يا (فادي) ولا تحدث ضجيجا، واجعل مماتك هادئا كما كانت حياتك، واستريحي يا ضمائرنا المنهكة من طول السبات تحت تراب العجز والهوان قبل أن يقض مضجعك فاد آخر أو (زواري) آخر أو (باسل أعرج) آخر أو أي آخر، فلربما صدق فيك قول (الحطيئة) حين أنشد هاجيا أحدهم: دع المكارم لا ترحل لبغيتها.. واقعد فأنت الطاعم الكاسي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.