شعار قسم مدونات

على جبينِ الوطنِ أعلامٌ خُضّبتْ بدماءِ الشهداءِ

مدونات - مسيرة العودة غزة
على حدودِ غزةَ حَنجرةٌ ومقلاعٌ وكاميرا، وعَجلةُ كاوشوك، وعَلمٌ تَخضَّبَ بدماءِ الشهداءِ والمصابينَ، تركوا خلفَهم خيباتِ الانقسامِ، وراياتِ الأحزابِ؛ لتجتمعَ قلوبُهم وأرواحُهم على قلبِ رجلٍ، وهدفٍ، وعَلمٍ واحدٍ، وحَّدَ بألوانِ طيفِه جراحاتِ الوطنِ وهمومَه؛ ليبقَى مرفوعاً على جبينِه..
 
"مسيراتُ العودةِ الكبرى" مفصلٌ جديدٌ يضافُ لمَفاصلِ قضيةِ فلسطينَ، ونوعٌ جديدٌ من النضالِ السلميّ؛ لتحريكِ بوصلةِ العودةِ لشعبٍ هُجِّرَ منذُ عامِ ثمانيةٍ وأربعينَ، عقودٌ مضتْ ولم يعودوا إلى ديارِهم التي طُرِدوا منها بالصاروخِ والبارودِ، وبالقتلِ المتعمّدِ.
 
هناك في خيامِ العودةِ التي أعدَّها المعتصمونَ سلميّاً على الحدودِ المتاخمةِ لقطاعِ غزةَ؛ لتكونَ مَقرّاً لمَسيراتِ العودةِ الكبرى. رسموا حياةً جديدةً، وأعادوا نبْضَ العودةِ وعنفوانَها الذي رضعوهُ مع حليبِ أمهاتِهم، ونَقشوا ميادينَ البطولةِ على حدودٍ صنعَها الاحتلالُ زوراً وبُهتاناً.
 
هناك حيثُ تَخضّبَ الرغيفُ الذي تصنعُه أيادي الأمهاتِ؛ اللاتي خرجْنَ مع عائلاتِهنَّ في مسيراتِ العودةِ الكبرى؛ وهنَّ يصنعْنَ خبزَ الصاجِ بدماءِ الطفلِ الصغيرِ "محمد ماضي" الذي لم يتجاوزْ السابعةَ من عُمرِه؛ ليَهوي شهيداً تزُفُّه السماءُ قبلَ الأرضِ، فاحتضَنتْهُ الأرضُ التي روّاها بدمائهِ، والذي أطفأتْ والدتُه شمعةً يومِ ميلادِه في يومِ استشهادِه! وأطفأتْ بعدَها مزاميرُ الفرحِ.
 
اجتمعتْ أجيالُ الوطنِ على اختلافِ ألوانِهم؛ فكان الجدُّ يتقدّمُ المَسيرَ بِفُتُوّةٍ مع باقي أفرادِ عائلتِه؛ يحدُّثُهم عن يافا عروسِ البلادِ التي تحدّثتْ الأمثالُ عن جمالِها، فكانت المرأةُ اليافاويةُ تقولُ لزوجِها :"يا بتروبِّني يا بتطلِّقني"! حيثُ كان بجنوبِ يافا منطقةٌ خلّابةٌ على البحرِ؛ عبارةً عن مَصيفٍ جماعيّ لأهلِ يافا يسمّى "النبي روبين"؛ وهي منطقةٌ مشهورةٌ بالعنبِ والتينِ والجُميزِ.. وكانت اليافوية تقولُ هذا المَثلَ؛ كي يأخذَها زوجُها لتلكَ الاحتفالاتِ.
 

هناك على ثرَى الحدودِ الملاصقةِ للوطنِ السليبِ؛ تزيّنتْ حدودُ الوطنِ بدماءِ الشهداءِ ، حيثُ يضعُ المحتلُّ الصهيونيّ العائلاتِ التي قدِمتْ إلى الحدودِ تحتَ مَرمى قناصتِه

بينما تقاطِعُه حفيدتُه التي حملتْ معها عَلمَ فلسطينَ: حينما نعودُ إلى ديارِنا سنذهبُ إلى الجورةِ؛ لنزورَ بيتَ صديقتي "علياء"، فلا أريدُ أنْ نتفرّقَ بعدَ عودتِنا إلى بلادِنا، فأومأ برأسِه إيجاباً قائلاً: سنعودُ إلى ديارِنا يا طفلتي؛ وستَزورينَ صديقتَكِ بإذنِ اللهِ، فما ضاعَ حقٌّ وراءَه مُطالبٌ. بينما تقاطِعُهم جارتُهم التي ترافِقُهم إلى الحدودِ: ستعودُ أهازيجُ المجدلِ التي كانت فتياتُها تَتغنَّيْنَ بها أثناءَ عملِهنَّ في التطريزِ، وأعمالِ النسيجِ، حيثُ كُنّ يُدَنْدِنَّ :" شَغّلي النول يِسلملي ديّاتك…هذه الحلوة بتلبس شغلاتك"، وقد اشتهرتْ مدينةُ المجدلِ بصناعةِ النسيجِ؛ وبالذاتِ المنسوجاتِ الحريريةِ والقطنيةِ، وكانت تُقدّمُ القماشَ بكُلِّ أنواعِه إلى كلِّ فلسطين.

 
هناك على الحدودِ تُقاسُ البطولاتُ بأذرُعِ السلميةِ؛ التي اتّخذَها المنتفِضونَ عنواناً لهم، فتقدّمتْ العائلاتُ تَحملُ إفطارَها وغداءَها، فقد صنعتْ النساءُ "ورقَ العنب" أو ما يُعرفُ بال(الدوالي)؛ أعدَدْنَه الخميسَ مساءً، يتحادثنَ ويتسامرْنَ أثناءَ لفِّه_ كأنها نُزهةٌ_ ليستنشقوا ياسمينَ بلادِهم، ويأكلونَه بنَكهةِ الأجدادِ. ليسوا وحدَهم مَن أعدَّ لنُزهةِ البلادِ، فالعائلةُ المجاورةُ لهم؛ حملتْ معها أطباقَ المعجّناتِ التي تنوّعتْ بينَ السبانخِ ومعجّنات الحشوةِ بالجبنةِ البيضاءِ والصفراءِ، والبطاطسِ بالفلفلِ الأحمرِ، تتحيّنُ الفرصةَ لمَدِّ سفرتَها بعدَ إلقاءِ قنابلِ الغازِ عليهم -وهم جلوسٌ على بُعدِ (150 ) متراً- فيُغطّيها الشبابُ الذين قدِموا مع عائلاتِهم بـ (دَلوٍ) أحضروهُ معهم تَحسُّباً من غَدْرِ الصهاينةِ، ثُم يجلسونَ عليه ليضعوا ثِقَلاً ، أو يحاولونَ دفنَها في الرمالِ؛ حتى لا تختنقَ النساءُ والأطفالُ، فيتناولونَ طعامَ الغداءَ بنكهةِ غازِ (السي إس) المُكوّنِ الرئيسِ لقنابلِ الغازِ الذي يُعدُّ أكثرَ فعاليةً وسُميّةً وإضرارًا بالإنسانِ؛ ويؤدّي إلى الاختناقِ والفتكِ بالشُّعَبِ الهوائيةِ.
 
ورغمَ محاولةِ الاحتلالِ الصهيونيّ حَرْفَ المسيراتِ السلميةِ عن مسارِها؛ وذلك باستخدامِ الغازِ المُسيلِ للدموعِ، والغازِ الأخضرِ؛ وهو ما يُعرفُ بغازِ الحشراتِ، وكذلك الرصاصِ المتفجّرِ، وما أُطلقَ عليه بالفراشةِ؛ الذي يدمّرُ الأعضاءَ التي يصلُ إليها؛ ويؤدّي إلى الوفاةِ أو بتْرِ الأعضاءِ، وهو محرّمٌ دولياً؛ إلّا أنّ الفلسطينيّينَ لا يزالونَ يُعلنوها سلميةً؛ ولا يستخدمونَ العسكرةَ المضادّة، ويذهبونَ بعائلاتِهم للتمتُعِ بمَشاهدِ أ راضيهِم الخلّابةِ على امتدادِ بصرِهم؛ يُلقونَ عليها تحيةَ قلوبِهم وأرواحِهم التي تعلّقتْ بها، ولن تنساها يوماً. 
  
undefined
  
 
كان المفتولُ حاضراً على الشريطِ الحدودي، حيثُ وضعتْ "سنابل الخير" بصمتَها؛ وبادرتْ بإعدادِ المفتولِ بأوانٍ كبيرةٍ؛ حيثُ مجموعةٌ من الفتياتِ الغزياتِ صنعْنَه بأديهنَّ؛ وعيونُهنَّ ترنو إلى بلداتِهن على طولِ الحدودِ، اختلفتْ مدُنهُنّ، وتشابكتْ أيديهِنَّ، يفتِلنَه على أهازيجِ العودةِ، وزغرودةٌ صدَحتْ من مجموعةِ سياراتٍ توافدتٍ، وفي وسطِها سيارةٌ تزيّنتْ بألوانِ الفرحِ؛ تَحملُ داخلَها عروسَينِ أبَيا إلّا أنْ يُشاركا في مسيراتِ العودةِ على طريقتِها؛ ليستنشِقا عبقَ بلادِهما من بعيدٍ، وليُخبِرا أبناءَهما عن زفَّتِهما على حدودِ بلادِهما، والتي لم ينُلْها الكثيرونَ، حيثُ كان يُمنعُ الوصولُ للشريطِ الحدوديّ قبلَ مسيراتِ العودةِ الكبرى -رغمَ أنه حقٌّ للفلسطينيينَ-؛ لكنّ مسيراتِ العودةِ أتاحتْ الفرصةَ للفلسطينيينَ لاستنشاقِ عبيرِ بلادِهم عبرَ الحدودِ؛ وليتنقلوا بناظريِهم نحوَها يُقبّلونَ جَبينَ كلِّ شِبرٍ فيها؛ ويهمِسونَ لها بأحاديثِ الشوقِ وأمنيّاتِ العودةِ التي يُعِدّونَ لها بما أُوتوا من قوةٍ، وبالقليلِ الذي يملِكونَه.
 
وأعدّتْ المشارِكاتُ في المسيراتِ كعكاً بنَكهةِ العودةِ؛ وقد أحضرْنَ ما يلزمُهُنّ لصناعتِه، فاجتمعنَ على قلبٍ واحدٍ، وهدفٍ واحدٍ، ووطنٍ جمعَ أحلامَهنّ وعنفوانَهنّ؛ ترنو قلوبُهنّ نحوَه لتقبيلِ ثراهُ، وعلى رائحتِه تَجمهَرَ الكثيرونَ؛ وقد عبَقتْ رائحتُه النفّاذةُ -المختلطةُ برائحةِ البلادِ، ونسيمِ العودةِ- إلى أنوفهِم، وبعدَ انتهائِهم غلّفوا أطباقَ الكعكِ المُعَدِّ بحُبِّ الوطنِ، بابتساماتِ الفرحِ والتمني بسَجدةٍ قريبةٍ في الوطنِ السليبِ؛ وأرسلوا معه رسائلَ الصمودِ والثباتِ للمشارِكينَ؛ الذي قدِموا يشاركونَ "بسِلميَّتِهم" وما هابوا من رصاصةٍ ولا جنديٍّ .
 
هناك على ثرَى الحدودِ الملاصقةِ للوطنِ السليبِ؛ تزيّنتْ حدودُ الوطنِ بدماءِ الشهداءِ ، حيثُ يضعُ المحتلُّ الصهيونيّ العائلاتِ التي قدِمتْ إلى الحدودِ تحتَ مَرمى قناصتِه؛ فلم يستثننِ طفلاً، ولا شابَّاً، ولا مُسعِفاً، ولا إعلامياً، ولا رجلاً كبيراً، ولا امرأةٌ.. جميعُهم كانوا تحتَ طائلةِ استهدافِ رصاصاتِهم المتفجّرةِ؛ والتي أغلبُها تؤدّي إلى القتلِ العمدِ؛ حيثُ الإصاباتُ المباشرةُ للرأسِ والصدرِ؛ وكذلك تسبّبُ إعاقةً دائمةً باستهدافِ الأقدامِ بالرصاصِ المتفجّرِ.
 
رسامٌ، وإعلاميٌّ، وثائرٌ، وطفلٌ، يعشقون ترابَ بلادِهم؛ اجتمعوا على الحدودِ فحلّقتْ أرواحُهم إلى السماءِ؛ بلا ذنبٍ لها سِوى حقِّها في العودةِ إلى بلادِها، فأرادَ اللهُ لها دياراً أخرى؛ فيها ما لا عينٌ رأتْ؛ ولا أذُنٌ سمِعتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بَشرٍ، وأمهاتُ الشهداءِ يستقبِلنَ فِلذاتِ أكبادِهنّ بالدموعِ والزغاريدِ المرتجِفةِ؛ في رسالةٍ للمحتلِّ: (أبناؤنا تستقبلُهم الجِنانُ؛ وأنتم لن تهنئوا بالعيشِ بديارِنا، وأبناؤهم سيَسيرونَ على ذاتِ دربِهم). وقد وصلتْ حصيلةُ شهداءِ مسيراتِ العودةِ إلى ( 39) شهيداً، و(4) آلافِ جريحٍ، وزهاءَ سبعينَ حالةِ بَتْرٍ!.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.