شعار قسم مدونات

التسبيح الأعظم..

مدونات - رجل يتفكر يتأمل

في خضمِ رحلتكَ في هذه الحياة ترى أنَّ بعضَ الأشياءِ من غير المنطقي ألَّا تكتمَل أو تتم بالصورةِ التي ترغبها وتريدها، وهذا من زاويةِ رؤيتكَ ومنطلقِ مشاهدتكَ قد يبدو أمرًا واقعًا ومحتمًا وضروريًا لازمًا، لكنْ منَ المنظورِ الأوسعِ لقاموسِ الحياةِ وفلسفتها يبدو الأمرُ مختلفًا، فحكمةُ الأمورِ حقيقةً لا تخضع لمنطقنا أو تصوراتنا تجاه الأمور، فالكونُ والأحداث لها منطقها الخاص والأوسع، ونظرتنا في الغالبِ تبقى -ومهما اتسعتْ- في أضيق ما يمكن، وذلكَ مقارنةً مع الخط الكلي لسير الكون، لأنّ نظرتنا لا تتعدى كونها مشمولة وفقط بـ الـ (نا) خاصتنا، محكومةٌ وخاضعة لتأويلنا -المَحكوم لفلسفةِ المعطيات والوعي الضيق الذي نملكه- ومشاعرنا وجملة العواطف والرغبات التي نتمنى لا غير.

وفي كتابه النسبية يوضح الكاتب مصطفى محمود أنَّهُ ومن الممكنِ وجود تصورٍ أوسع -من حيث الحقيقة والخلق- لهذه الحياة ولهذا الكون، تصور لا نستطيع أنْ ندركه بعقولنا وملكاتنا وحواسنا المحدودة، لأننا ليس إلا فاصلة في جملة هذا الكون الواسع، وهذا من شأنه أنْ يصنعَ فينا الدهشةَ عندما تنتهي هذه الحياة ونرى الحقيقة التي لم نكن نراها في حيواتنا أبدًا.

وهذا يحمل معنى خفي تحدث عنه ايكهارت في كتابه الأرض الجديدة حيث لمحَ إلى أنَّ جملةَ الوعي يحتاج إلى هدوءٍ في البصيرةِ وحدةٍ في النظرة، ورؤية الأشياء على حقيقتها هو جوهر الوعي الذي نرغبه على مستوى الإنسانيةِ، لنصلَ إلى كمال بشريتنا وإنسانيتنا، فدومًا النظرة النسبية والسطحية والضيقة للأشياء تخلق مشكلة لا يمكن تجنبها بسهولة لأنها مرتبطة بالعقل والتفكير بشكٍ أو بأخر، وهذا المستوى من الإشكال يدفع إلى تعميق الخطأ لأنَّ فعلًا لابدَ أنْ ينتجَ عن كلِّ هذه الدورة من التصورات والأفكارٍ، فننتقل بالإشكالِ من نقطةٍ لا اجتراءَ فيها على مستوى الفعل إلى نقطةٍ تسببُ أثارًا واضحةً من الخطأ في الفعلِ.

حثنا الإسلام على عدم السعي وراءَ ظواهر المعاني والماديات لأنَّ سعينا بهذه الصورة سيكونُ عقيمًا لا طائل منه، وبالمقابلِ كان الحضُّ على السعي وراءَ المعاني والمقاصدِ الساميةِ

والوعي لا يمكن أن يكونَ حاضرًا في نفسٍ بشريةٍ دون توافر متطلبات تعينُ حضورهُ ونمائهِ، ومن جملة المتطلباتِ هذه، القدرة على النظر في الأشياءِ من جوانب عدة ولكن بعينِ الشخصِ ذاتهِ، ولا بدّ من توفر المعرفة الحقيقة للشخصِ بذاتهِ وقدراتها وماهيةِ طبيعتها، وطبيعةِ العلاقات بينه وبين ما يحيط به من جملة المحيط الكائن هو فيه، وهذا يتطلب سعي وعدم الركونِ إلى الراحة في العمل والتطوير الذاتي في الفهم. "من طلب الراحة في الحياة فقد مسه بضعة من جهل"، وهذه الرؤية لا تتعارض من ضرورةِ السعي الإنساني للوصولِ إلى منطقةٍ تؤنسهُ وتريحُ فؤاده وعقله، منطقةٍ يلقى بها نفسهُ وذاته بكامل اتساقها وعظمتها، لكنْ ما يقالُ في هذا الصددِ يتمحورُ -وفقط- حولَ الكيفيةِ في البحثِ وفي الوعي بما نريدُ حقَا.

فقد حثنا الإسلام على عدم السعي وراء هذه الحياة -والسعي هنا سعيٌ وراءَ ظواهر المعاني والماديات- لأنَّ سعينا بهذه الصورة سيكونُ عقيمًا لا طائل منه، ففيه لا نرعى إلا رغباتنا المتقدة بما نريده ونراه، وبالمقابلِ كان الحضُّ على السعي وراءَ المعاني والمقاصدِ الساميةِ، دونَ دونيةِ مبتذلة أو إسرافٍ مُهلكٍ، وصفةُ هذا السعي بصورة أساس جعلهِ من باقي المقاصد -الأدنى سموًا ومعنىً- أمورًا تحصيلية في خِضمِ سعينا الأكبر، وتعينُ تفكيرنا أن يمحو من تكتيكاته الصورة السببية لفعلنا وحركتنا مع المقاصد الأدنى، وهذا ضرورة لأنه يجعل من الإنسان وجودًا وفعلًا وحركةً وتفكيرًا جزءًا لا نقيض من المنظومة الكبرى لهذا الكون، ويكون فعله تسبيحًا جاريًا ومتوائمًا مع سبوحات هذا الكون وهذه الخلائق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.