شعار قسم مدونات

وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي

A Palestinian woman prays on the fourth Friday of the holy month of Ramadan at the compound known to Muslims as the Noble Sanctuary and to Jews as Temple Mount, in Jerusalem's Old City July 10, 2015. An Israeli police spokesperson said on Friday that some 140,000 people attended the prayers on the compound and some 56,000 Palestinians from the West Bank entered Jerusalem through Israeli checkpoints. REUTERS/Ammar Awad

إنّ لكلّ شخصٍ منّا في القرآن آياتٍ كحَمَامات سلامٍ ورحْمة، تطوِّق روحه وتضفي على قلبه راحةً وسكينةً وطمأنينة تتعجَّب النّفس منها، وكلَّما رُحتَ تتفقَّد روحك بين هذه الآيات ارتاحَت وسكنَت أكثر، لا تدري حتّى أي علاقةٍ تلك التي جعلَت هذه الآيات دون غيرِها تَسكُنك سوى إحساسك بالرَّاحة كلَّما تأمّلتها! منها آياتٌ تبثُّ في قلبك إحساس اللّطفِ الإلهي، أنّ الله يرى ويعلم بحالك وبحثك عنه، أنّك لستَ وحيدًا بل: "وَهُوَ مَعَكُم أَيْنَ مَا كُنْتُمْ". في عناية الله الذي لا أمن إلاّ في جواره، من جعل النّار على إبراهيم بردًا وسلامًا، وجعَل من ثَبَج البحر لموسى ملجأ ومنامًا… عنايةٌ إلهيّة تنهمر على الخلق في كلّ لحظة، فلا تمنع نفسك من استقبالها بضجيج أفكارك، كُن صامتًا واسمح لقلبِك أن يشهد مراسم الحُبّ الإلهي!

تأمّل قصّة سيّدنا موسى وبداية طفولته، والذي أحاطهُ الله بلُطفِه بطرقٍ يعجز المرء عن وصفها، تبدأ بحركاتٍ كلها عنف وخشونة: قذفٌ في التّابوت وقذفٌ في اليم ثمّ قذفٌ في السّاحل، ثم ماذا؟ من يتسلمُ التّابوت؟ "عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهْ"، وفي زحمة هذه المخَاوف كلّها، وبعد تلك الصدمات كلّها، تأتي "وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي"، المحبّة الهيّنة كعناية إلهيّة للطّفل، فألقى الله عزّ وجلّ بقدرته ورعايته محبّته، ذلك الستار الرقيق الشفيف في قلب امرأة فرعون، فحماهُ بها، لا بالجبروت ولا بالعُنف، حماهُ بالحبّ الحاني في قلب امرأة، لتتحدّى قسوة فرعون وغلظته، رحمةٌ ممثلة في محبّة لا في صيالٍ أو نزال "وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي"، وكيف للّسان العاجز أن يصف خلقاً يُصنع على عين الله؟ إنها منزلة أن ينال إنسان لحظة من العناية. فكيف بمن يُصنع صنعاً على عين الله؟ 

وقوع العبد في دائرة الاصطفاء والجذب يوفر عليه كثيرًا من المعاناة والتعثّر في أثناء سيره إلى الله، فيربّيه تربية يعجز عن فهمها! ويُقدِّر له مواقف تؤهله لهذه المكانة دون غيره

صحيحٌ أنّنا لسنا كسيّدنا موسى -عليه السّلام-، إلا أنّنا جميعًا نحظى بلا شكًّ بحبّ الله لنا لأسباب قد تختلف من شخصٍ لآخر، فهو يعلم سرّنا وجهرنا لا كما يعرفنا غيرنا، ولا حتّى كما نعرفُ أنفسنا. لكنّنا لضُعفنَا نغفلُ كثيرًا عن هذه المحبّة خاصّة وإن واجهتنا الحياة بعقباتها، لكن ليس من الضروريّ أن نفهم كل مبررات ما يحصل معنا، علينا فقط أن نستشعر محبّة الله لنا ونؤمن به ونتفحّص مدى صِدقنا عندما نقول بألسِنتنَا ما نعجز عن تصديقه في دواخِلنا.

عليك فقط أن تقرأ قصّة حياتِك كما تقرأ قصّة سيّدنا موسى، وإبراهيم ويوسف وأيوب… تقرأ أهمّ الأحداثِ فيها، ما سرّك منها وما أضناك، ومن خلال تلك القراءة تتبّعُ محبّة الله لك، حتّى تلك التي أرّقت ليلك وأقضت مضجعك، ستكتشفُ فجأة أنّ كلّ ما كرهته منها كان حفظًا لك من سوءٍ دفعهُ الله عنك، وأنّ مرارة الحرمان التي تجرّعتها يومًا ما هي إلاّ منحة إلهية بها حُفظت أو لربّما تجدّدت.

إنّه يقول لك: "وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا"، يا له من تعبير! تعبير فيه إعزازٌ خاص، وأنسٌ خاص، إن الرَّحمةَ والحنان في هذه الآية الكريمة تَلمس دماءَ الجسد فتحرِّكها بسلامٍ، تَسري بسلام وتحطُّ في القلب بسلام، وتَسمو الرُّوحُ لتَهدأ بعد صراعٍ مرير. والذي يريد أن يكون بعين الله، عليه أن يصبر على حكم ربه، صبرٌ يقود إلى العناية الإلهيّة والإعزاز الرباني، "ولنجْزِينّ الّذِين صبرُواْ أجْرهُم بِأحْسنِ ما كانُواْ يعْملُون"… لا شيء أعظم من أن يعتني بك ربُّ الرحمة فقط اصبر وتوكل عليه حق التوكّل.

إنّك بمُجرّد أن يقول لك شخصٌ: (من عيوني)، تَشعر بالسَّعادة، فكيف لو كان القائل هو ربَّ العباد؟ "َإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا". وأيّ حفظ وأيّ رعاية أسمى من هذه! اسعَى لتكون من أولياء الله الذين "لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونْ". 

أصفياء اللّٰه هم الذين امتلئت قريحتُهم من فيوضاته المتوالية فبرزت علاماتُها في إشراقة عيونهم، وسماحة وجوههم، فرزقهم اللّٰه بذلك حبّه وحبّ الناس لهم
أصفياء اللّٰه هم الذين امتلئت قريحتُهم من فيوضاته المتوالية فبرزت علاماتُها في إشراقة عيونهم، وسماحة وجوههم، فرزقهم اللّٰه بذلك حبّه وحبّ الناس لهم
 

عليك أن تعلمَ أنّنا كلُّنا مخبَّؤون تحت ورق التغليف البرَّاق، وكل منّا يَختار ماركتَه ليبدو أنيقًا جذَّابًا قويًّا صلبًا متماسكًا، غير أنَّ شموس الأسئلة لو أذابَت ما بالورق لفُضِحنا بالدُّموع، قُوَّتنا هي قدرتنا على اختيار الورَق البرَّاق لا أكثر، وعلى حشْوه بمكسرات الرضا والحُب، قوَّتنا هي قدرتنا على تَسليم هذه الخلطَة الإنسانيَّة إلى صانعها، فهو وحده من يتولَّاها ويَرحمها ويرأَف بحالها "قُلِ الله يُنجِيكُم مِنْها ومِنْ كُلّ كرْبٍ" وهذا بحدّ ذاته اصطفاء أو ما يسمّى الجذب الربّاني فـ "اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ".

 

ومن المعلوم أن وقوع العبد في دائرة الاصطفاء والجذب يوفر عليه كثيرًا من المعاناة والتعثّر في أثناء سيره إلى الله، فيربّيه تربية يعجز عن فهمها! ويُقدِّر له مواقف تؤهله لهذه المكانة دون غيره، فتكون بمثابة لحظات صدقٍ إيمانيّة. لكنّ هذه الأحداث لا تزيده إلاّ حُبًّا باللّٰه لأنّه علم أنّها جاءت لتُؤدّبه لا لتُعذّبه، وأنّهُ دخل بهذا ميدان العناية الإلهية، فأدرك تدخّلهُ عزّ وجلّ في كل حركةٍ من حركات حياته… إنّ أصفياء اللّٰه هم الذين امتلئت قريحتُهم من فيوضاته المتوالية فبرزت علاماتُها في إشراقة عيونهم، وسماحة وجوههم، فرزقهم اللّٰه بذلك حبّه وحبّ الناس لهم.

فقط تهيَّأ لأن تَصحوَ وأن تؤدِّي صلاةً وحدك، دُقَّ باب العزلة ولو ليومٍ واحد، قم ابحث عمّن يضمد جروحك، الذي جاء جوابُه بكلّ سلاسةٍ "هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ"، لزكريّا حين دعاه "رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا"، وقد بلغ من الكبر عتيًّا، وكانت زوجته عاقرًا، والذي نادى مريمُ "مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي" في قمّة كربها، من قال: "نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدْ"، من يمسح دموعك، ابحث عمّن تلجأ إليه فيضعك في عينيه "إِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا"، ابحث عمّن تَخرُج كلماتُه بكلّ دفئٍ وحنان "فِيهِ شِفَاءٌ لمَا فِي الصُّدُورْ"، وتذكَّر أنّ اللّٰه أودَع فيك حُبَّه، وأنّك في جميع حالاتِك وانفعالاتك "بِأَعْيُنِنَا"، سِر في طريقك لله فإن أراد منك شيئًا صَنعك له صناعة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.