شعار قسم مدونات

نزع تاج الفساد

blogs صلاة و دعاء

إن من أشد أعداء البشرية جمعاء، والذي يسعى دائما في محاولة تحريك أفكارنا لما ينافي الحق الذي جاء به خالقنا عز وجل في كتابه وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، هو إبليس الذي يسعى دائما في تزيين الباطل حقاً والحق باطلاً، حتى يغوي البشرية إلى فعل المنكرات والبعد عن المباحات، كما جاء صراحة منه سبحانه وتعالى في قوله: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، وهو مُتَكبر مُتَعجْرف وكأنه واثق فيما يقول.

 

وما يثير الاستغراب أن إبليس على علم بوجود يوم البعث ويوم الحساب ومع ذلك لم يأبه وبقي على حالته الضالة المضلة حتى: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). وهنا قال أهل العلم في تفسير قول إبليس، أن العلم بالحق لا يستلزم الهداية كما كان لإبليس لعلمه ويقينه أن هناك يوم سوف يبعث فيه ويحاسبه الله على أفعاله حينما تَكَبَّر وأبى أن يُطيع كلام الله عندما أمره في أن يسجد لآدم.

وما ألهمني في فعل إبليس وما كان له من لعنة الله عليه إلى يوم الدين، أنه كان له من البصيرة ما تكفي لمعرفة الحق من الباطل، وعلى يقين أن من يخالف أمر الله سوف يلقى حسابا عسيرا..! ومع ذلك آثر العصيان وعدم طاعة الله وسعى في إتباع فكره الضال المُضل. ولكن السؤال الذي أرَّقَني هو كيف يكون لمخلوق أن يعرف مصيره عند معصية خالقه، فيسعى جاهداً للوصول إلى غضب الله وعقابه..؟!! وكيف كان له من الثقة الكبيرة في أنه سوف يغوي بني آدم؟! وكيف كان على يقين بكلام الله بأنه لن يستطيع التغلب على عباده المخلصين كما جاء في قوله: (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)؟! ومع ذلك أخذ هذا السبيل المؤدي إلى الهلاك ولم يكترث بحياة يعيش فيها العذاب بلا موت، وآثر الحياة الدنيا القصيرة على جنة الخلود في الآخرة؟!

البلاء الذي جاء به إبليس ونقله إلى بني آدم ما هي عدوى تم نقلها باحترافية سبقتها تدبير ومكر وكيد، عدوى التكبر على من خلق السماوات والأرض في قبول الحق وآثر قبول الباطل

أليس من المستغرب أن إبليس قد تعمد وتكبر في أن يعصى الله بل وجاهر في ذلك وهو أمام الله نفسه الذي خلقه!! حتى أنه طلب من الله ليبقيه إلى يوم القيامة فيقوم على استدراج بني آدم على فعل المعاصي والمنكرات، فيكون له في الجهر للمعصية أمام الجميع طريقاً لا يهمه عقاب الله ووعيده رغم علمه بعذابه في النار السعير!!

وما رأيته من إبليس وما كان له من علم اليقين في أن هناك العقاب والجزاء، رأيته أيضا في الإنسان نفسه..! حينما يأتي أمر الله في أن نبتعد عن المنكرات لأن فيها غضب الله وفيها عقابه، والالتزام بما حلل الله لأن فيها النجاة والفلاح، فأرى من أرى أن هناك من يتكبر ويعاند كلام الله!، وهو على يقين أن كلامه الحق، وما صدر عنه الوعيد ممن يخالفه، ورغم ذلك كله يقوم هذا الإنسان الضعيف مقام إبليس..!!

 

وأستثني من هؤلاء من قال فيهم الله عز وجل فيما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنَّ عبدًا أصاب ذنبًا فقال: ربِّ أذنبْتُ، فاغفِرْه، فقال ربُّه: أَعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذَّنبَ ويأخذُ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكث ما شاء اللهُ، ثم أصاب ذنبًا، فقال: ربي أذنبتُ آخرَ، فاغفِرْ لي قال: أَعِلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذَّنبَ. ويأخذُ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم أصاب ذنبًا، فقال: ربِّ أذنبتُ آخرَ، فاغفِرْ لي، قال: أَعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذَّنبَ ويأخذُ به؟ قد غفرتُ لعبدي فلْيعمَلْ ما شاء).

وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ). وما جاء في تفسير إبن كثير في تفسير هذه الآية أنه قال: "يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر وتركوا ما عنه زجر أنهم إذا مسهم أي أصابهم طائف… ومنهم من فسره بالهم بالذنب، ومنهم من فسره بإصابة الذنب. وقوله: (تَذَكَّرُوا) أي عقاب الله وجزيل ثوابه ووعده ووعيده فتابوا وأنابوا واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب (فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) أي قد استقاموا وأفاقوا مما كانوا فيه".

بعد أن نُمْعن في التفكير بآياته وبخلقه بأن من يقوم بالمعصية ما هو إلا شخص أعمى، وهو في نفس الوقت بصير لسلامة بصره وقوة نظره! أعمى على أن يرى أمامه الطريق الذي يجب أن يسلكه حتى يصل إلى بر الأمان، فينقذ نفسه من أن يصيبه أية مكروه أو أذى؟! أليست صفة الأعمى تطلق على هذا الإنسان الذي تشفق عليه البشرية لعدم إبصاره للطريق الحق، كما نرأف لحال الأعمى الحقيقي الذي فقد نعمة البصر! بل ما زلت أرى أن الله سبحانه وتعالى إذا أخذ من الإنسان بصره، عوضه الله بنعمة عظيمة إما في عقله أو جسده أو في جنة عرضها السماوات والأرض على صبره. أما مختوم القلب وأعمى البصيرة مما يقوم به من معاصي، يقوم الله بالاستهزاء به فيعوضه بطول أجله ليزداد في ضلاله وطغيانه وعدم رؤيته لطريق الهدى والرشاد، حتى يلاقي الله ربه: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ). 

كل ما يصدر من إبليس الرجيم من جميع الأعمال التي يطبقها على البشر، هي نفسها يطبقها من وَرَّثَهم هذه الأعمال، فيطبقون كل الأعمال الفاسدة ولكن بأسلوب مختلف آخر

إن البلاء الذي جاء به إبليس ونقله إلى بني آدم ما هي عدوى تم نقلها باحترافية سبقتها تدبير ومكر وكيد، عدوى التكبر على من خلق السماوات والأرض في قبول الحق وآثر قبول الباطل حتى تمرد على خالق الإنس والجان: (إلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)!. نقل إلى بنى آدم عدوى الجهل الذي أوصله إلى التكبر، جهل الإيمان بأن أمر الآخرة والخلود في نار جهنم أمر لا تطاق له الأجساد والأرواح! عدوى الجهل والتكبر الذين أثّروا على القلب فالعقل حتى أعمى البصر فكان ممن أعمى الله بصيرتهم وختم على قلوبهم: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

وما كان من إبليس وهو رأس التكبر والجهل رغم ما له من عين الحقيقة التي لا شك فيها، وهو سيد المتكبرين والجهال منذ أن خلق الله الخلق. ومن له هذه المكانة في العلو والسيادة والشأن الكبير على خَدَمِه ممن حوله الذين على شاكلته، فلن يتنازل بأن يُوَرِّث كِبَره وجهله إلا لمن هو كبير وسيد على قومه مثله، ولذلك ترى من بني البشر أن أكثرهم ظلماً وتجبراً وتكبراً وجهلاً وفساداً هم من استغلوا سيادتهم على غيرهم، والتحكم في مصيرهم وأرزاقهم! والعمل على تشريد وتشتيت عائلاتهم، والتفريق بين إخوانهم، ويثيرون الفتن وقتل النفس والروح بكل ما أوتوا من قوة، من استخدام جميع الأدوات والأسلحة التي قد تقع بين أيديهم بل ويسعون لامتلاكها.

كل ما يصدر من إبليس الرجيم من جميع الأعمال التي يطبقها على البشر، هي نفسها يطبقها من وَرَّثَهم هذه الأعمال، فيطبقون كل الأعمال الفاسدة ولكن بأسلوب مختلف آخر. ولهذا عندما يقال: "شياطين الإنس والجن"، فعلا هو إبليس ومن تبعه من الجن، وأصحاب السيادة والسلطة ومن تبعهم من شياطين الإنس الذين يساعدونهم على طغيانهم. أليس من يجاهر في المعصية وهو يعلم أنه يعاند الله خالقه، هو نفسه ما قام ويقوم به إبليس..؟!

 

ويا ليته يُبْقي منكره على نفسه! بل يتعداه في أن يفتن غيره في تصرفاته وأفعاله وتحريضه للغير وتكبره وعناده لله سبحانه وتعالى كما كان موقف إبليس..! أليس لدينا زعماء وأصحاب سيادة هم أصبحوا الآن أكبر بكثير من إبليس نفسه بأفعالهم وأقوالهم حتى كان لإبليس أن ينزع تاج الفساد، فيضعها مستصغراً على رأس من هو أعلى منه شأناً في الغلبة والانتصار والتَّلذُّذ بعمل الفتن! هذا ما ورثه إبليس لمن تقلد جسد بشري حتى يسير ويبقى على نهج سَلفِه، ويبقى التاريخ يعيد نفسه حتى نلقى الله جميعا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.