شعار قسم مدونات

الإنسان الصومالي بين الهوية والانتماء

BLOGS الإنسان الصومالي

* سيدي كيف انتقلتم إلى هنا؟ 
– ولدت هنا في كينيا، ووُلد والداي هنا ايضاً، وكذلك أبنائي، فنحن كينيون. 
* لكن هويةً، أتشعر بأنك كيني أو صومالي؟ 
– قلت لك يا ابنتي، أنا كيني الهوية لكني صومالي الانتماء!
* هَب أن البلدان (الصومال وكينيا) دخلتا في حرب في أي صف تصطف؟ 
– سكت برهة كأنما أثقله السوا، ثوان وإن طالت فقد بدا له الأمر أخيراً أنه الغريب بكل ما أوتي من شرعية. يقلنا عمنا السائق غالباً في سيارته، وكل يوم يكتشف شيئاً جديداً عن كينونته.

"يا لها من معضلة تلك التي اسمها هوية! (قلتها عَلى حين غرة وأنا أراقب تغيرات ملامحه على مرآة السيارة) لماذا تفرِض علينا أن نكون شيئا وأحداً، لماذا لا نستطيع أن نكون الشيئين في آن واحد!"، يقضي الإنسان الصومالي حياته مثل طائر الخفاش، لا هو ينتمي للطيور، ولا لفصيلة الثدييات. أو لنقل مثل خلد الماء. هنا مثلاً يوجد مخيم داداب حيث يعيش الآلاف من المهاجرين بلا هوية، ولدوا بلا هوية لآباء بلا هوية، فلا هم صوماليون، ولا كينيون. معلقون على الهامش، متشبثون بأطراف خطوط وهمية على الخرائط.

 

ركن السيارة جنباً ثم استدار كمن يريد أن يضع حدا لهذه الوساوس المزعجة: "نحن نملك هذه القطعة من الأرض التي ولدنا فيها وعشنا فيها فهي جزء منا. من أين يأتي الإنسان بمصطلح الوطن، وما الوطن غير تلك القطعة الصغيرة من الأرض الذي فجأة وجد نفسه فيها ويذود عنها بكل شيء. إذاً نحن نملك هذه الأرض، نملك هذه الخيمات ونقطن هذا المخيم. نحن دادابيون. نحن لا ننتمي لأحد، كيف ننتمي لأرض لم نرها ولم نتذوق طعم تربتها أو نرضع حليبها، أرض نفت أبنائها كيف يمكن لها أن تصير أمًا. كلا أنا لست صومالياً. أنا فقط أنتمي لِلاتاريخ، لِلاوطن، أنا أنتمي لهذا المخيم".

في خضم ذاك السكوت الطويل كان السؤال الذي جال في خاطري هو كيف يا تُرى تراهم هذه الأرض، هل تبنّتهم بقدر الانتساب الذي يكنونه لها، أم أنهم ليسوا في عينيها وأعين الكينيين سوى مجرد دخلاء، أو ضيوفاً عليهم وسيرحلون ذات يوم، أم محتلين لهذه الأرض بالقوة .هل مسالة الاندماج حقيقية، أم أنها مجرد أكذوبة تناقلها الأجداد إلى الأحفاد في المنافي! مثل خالي الصغير الذي يصحح لي المعلومة دائماً حين أسهوا ليلقي علي درساً من دروس "طمس الهويات" التي يتلقاها في مدرسته بأنه إثيوبي وليس صومالياً!

هل الإنسان هو الوطن، أم دمه، واسم الجد، والقبيلة والنسب، أم أن هذا كله ليس ما إلا شيئا من الكينونة الكبرى، إن لم يكن إلا بعضاً من أحجيات الغجر القديمة
هل الإنسان هو الوطن، أم دمه، واسم الجد، والقبيلة والنسب، أم أن هذا كله ليس ما إلا شيئا من الكينونة الكبرى، إن لم يكن إلا بعضاً من أحجيات الغجر القديمة

أو صديقتي التي لطالما أصرت علي بأنها خليجية ما أه قد تم ترحيلها من هناك. أيمكن لإنسان مهما ملك من ثبوتيات أو جنسيات أن ينسلخ عن الهوية؟!، أيمكن لخطوط غير مرئيّة على الخرائط أن تحدد هوياتنا أو كينونتنا! هل يختلف الوضع في الداخل، كيف يرى الإنسان الصومالي نفسه في داخل الأراضي الصومالية، مواطنا أم مغترباً؟ يبدوا أن الأمر لا يختلف ففي كل يوم يهاجر الآلاف ليلقوا بأنفسهم بالبحر، عبوراً بصحاري ليبا بحثا عن مخرج من بؤس ألف العيش فينا وألفه قومي. إلى ألمانيا، إلى السويد لا يهم، أي مكان في الخارج تحلوا فيه الحياة.

 

كثيرون منهم يلقون حتفهم في الطريق، تحت وطأة التعذيب لأن أهاليهم لم يرسلوا المبلغ المطلوب من قبل المهجّرين، أو تلتهبهم رمال الصحاري، ومعظمهم يقدّمون كقرابين للبحر حين تثور أمواجه مرة، وتارة حين يمتلئ الزورق الصغير. والقلة القليلة فقط من ينجون ويكسبون معركة الحياة. من يصل إلى الجنة ينادي على العائشين في جهنم وطني إن ثَمّ الحياة فهلموا. فمن يصل فهنيئا له الحياة، ومن لم يصل فهنيئا له هو الأخر الموت في سبيل البحث عن حياة.

أتراها الأوطان من تتنكر لنا، أم نحن الذين نتنكر لها؟ وكيف تلبسنا الهوية، أم نحن الذين نلبسها، أهي الهوية من تنتمي إلينا، أم نحن المنتمون! آلاف الأسئلة تثقل رأسي الصغير، كيف يختار الأنسان كينونته، بما يعرف نفسه إن سئل يوماً عن الهوية؟ هل الإنسان هو الوطن، أم دمه، واسم الجد، والقبيلة والنسب، أم أن هذا كله ليس ما إلا شيئا من الكينونة الكبرى، إن لم يكن إلا بعضاً من أحجيات الغجر القديمة. هل نكسب وطنا بالانتساب أم بالانتماء؟ ننتسب إليه كما ننتسب لأجدادنا القدامى الذين انتقلوا إلى هنا قبل عقود قليلة من الزمن، أم ننتمي إليه بطريقة ما لا نعرفها! ما الذي يربط الهوية باللغة والشعر والنشيد الوطني.

وَيَا تُرى ذاك الذي يسد فوهة البنادق بالورود، ذاك الذي يرى وطنا غير الذي نراه، ويكتب في الصباح، صباح الخير يا بلدي، على صورة للمدينة تزاحم فيها الموت والوجود، فهي بطريقة ما تضج بالحياة، وعلى الجانب الأخر يعزف عليها الموت مقطوعة! كمعلم في مدرسة حكومية، أو جندي، كيف يَرَوْن الوطن، ما لون غدهم؟ كيف يحللون معضلة الانتماء وأحجية الوطن. بما يُعرفون أنفسهم حين يسألون!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.