شعار قسم مدونات

سيارة الوطن.. بدون فرامل

blogs أمطار التجمع

من أهم الأمور التي يبني عليها تقييم وسعر أي سيارة هو عوامل الأمان المتوفرة بها، بالطبع هناك عوامل أخري مثل معدلات الرفاهية والأنظمة الحديثة وخدمات ما بعد البيع..الخ ولكن بعد عوامل الأمان في السيارة تختلف عن أي عوامل أخرى نظرا لأنه ليس من العوامل الكمالية أو من الرفاهيات المستخدمة بصورة دورية، فوسائد الرفاهية وتحمل الهيكل وأنظمة التوقف الذاتي و.. و.. أنظمة الأمان الأخرى من أكثر الأمور التي تحدد قيمة وسعر السيارة.. ولكنك قد لا تستخدمها طوال فترة اقتنائك للسيارة سوي مرة واحدة.. ولكن أن لم تكن تلك العوامل متوفرة في تلك المرة عند الاحتياج إليها.. فأنت بلا شك تقود نعش وسوف يكون الندم رفيقك في لحظة معينة.

التجمع.. يوتوبيا الغارقة

في عام 2008 صدرت للكاتب الراحل أحمد خالد توفيق رواية بعنوان "يوتوبيا"، تدور أحداث الرواية عام 2023 حيث تتحول مصر إلى دولة مغرقة في الطبقية، تتكون من طبقتين يعيشان في مجتمعين منعزلين تماما، الطبقة الأولي الثرية تعيش في مدينة "يوتوبيا" المدينة المحاطة بالأسوار ويحرسها جنود من المرتزقة، أما باقي مصر فتعيش في فقر وتخلف وعشوائية. صُنفت تلك الرواية على أنها رواية خيال علمي وصراحة لا أعرف لماذا؟، فلو نظر أحد مصنفين الرواية لبعض "كمبوندات" القاهرة المترامية الأطراف مثل مدينتي أو الشروق أو التجمع أو الشيخ زايد لوجد أن تلك المدن الجديدة لا تختلف كثيرا عن مدينة توفيق اليوتوبية.

نسي أو تناسى أصحاب تلك اليوتوبيا الساعين للانعزال والترفع عن بقية المواطنين أن حياتهم وخدماتهم الأساسية وبنيتهم التحتية تعتمد في المقام الأول والأخير على الدولة الغارقة في الفساد

بدأ إنشاء تلك المجتمعات اليوتوبية المنعزلة منذ نهاية التسعينيات من قبل رجال أعمال مبارك، كان الهدف الرئيسي أو الهدف المروج له أن تلك المجتمعات سوف تتوفر فيها الخدمات بصورة جيدة ومميزة لمن يمتلكون المقدرة المادية على دفع تلك الخدمات بقيمتها التجارية، وعليه فقد انشأ سكان تلك اليوتوبيات مجتمعات خاصة بهم في محاولة "فاشلة" للابتعاد عن قاهرة المتوسطين والفقراء، أنشأوا مدارسهم ومشافيهم ونواديهم وأسواقها.. إلخ، حاولوا إنشاء ما اعتقدوا أنه سوف يجعلهم في غير حاجة لمركزية القاهرة، حاولوا محاكاة المجتمعات المتطورة -ظاهريا- من طرق واسعة والتعاقد مع شركات نظافة وشركات تأمين وما إلى آخره. وإذا تعجبت من استخدام كلمة "فاشلة" لنعت تلك المجتمعات.. فبالنظر إلى أمطار الأيام السابقة التي أغرقت أرقى مناطق القاهرة لعدم وجود شبكة صرف الأمطار سوف تعرف الإجابة.

المرسيدس وحدها لا تكفي

لقد نسي أو تناسى أصحاب تلك اليوتوبيا الساعين للانعزال والترفع عن بقية المواطنين أن حياتهم وخدماتهم الأساسية وبنيتهم التحتية تعتمد في المقام الأول والأخير على الدولة الغارقة في الفساد والعشوائية والوحل. فتلك الدولة التي يسعون للانفصال عنها هي المسؤولة عن توفير البنية التحتية لصرف المياه ولكنها لم توفر تلك الخدمة الأساسية.. فغرقوا. ولنطرح هنا سؤال آخر.. هل إن كنت من أثرى أثرياء مصر، هل يحميك ذلك من أن بقي عالقا في الزحام المروري فوق كوبري أكتوبر أو في الطريق الدائري أو صلاح سالم عند ساعات الذروة، هل سوف تتمكن من تجاوز موكب أحد الوزراء الذي يغلق الطريق، هل سوف تجعلك السيارة المرسيدس تطير وتتجاوز الاختناق المروري أشهر معالم القاهرة بعد القلعة؟

هل إذا وقعت في ورطة شديدة واضطررت أسفا أن تطلب الشرطة لنجدتك، وكما هو المعتاد لن تأتي الشرطة أو سوف تأتي لكن "بعد خراب مالطا".. هل سوف ينفعك أنك تحدثت إليهم من هاتفك الأيفون الذي لا يحمله إلا الأثرياء والذي يقترب ثمنه من 25 ألف جنية مصري؟ وإذا كنت تملك تأمين صحي في أرقي مشافي القاهرة التي تنافس مشافي لندن.. هل سوف يكون ذلك تأمين فعال وذا قيمة إذا حدث لك حادث وتأخرت سيارة الإسعاف لأنها عالقة فوق كوبري أكتوبر أو الدائري، أو جاء مسعف غير مؤهل وسبب لك إعاقة أو وفاة.

نحن نحتاج إلى إعادة النظر في أولويتنا وطموحاتنا.. فالنظام المنوط به التصرف عند وقوع الصخرة على الدويقة أو هطول الأمطار على التجمع.. هو للأسف نفس النظام
نحن نحتاج إلى إعادة النظر في أولويتنا وطموحاتنا.. فالنظام المنوط به التصرف عند وقوع الصخرة على الدويقة أو هطول الأمطار على التجمع.. هو للأسف نفس النظام
 
هل حقا يعيشون في رفاهية؟!

هل أن يعيش أحدهم في بيت يتكون من طابقين ويدخل أولاده إلى مجموعة مدارس يطلقون عليها "دولية" ويشترك في عده نوادي تروج أنها تمتلك "معايير عالمية" وأن يكمل الأولاد تعليمهم الجامعي في جامعات خاصة أفضل من التعليم الحكومي من حيث الشكل والمباني فقط.. هل يعد ذلك امتيازا خرافيا؟

تلك المدارس الدولية ذات المصروفات الدولارية الضخمة التي يتعلم فيها أبناء أرقى طبقات مصر تقل في المستوى عن المدارس الحكومية في الولايات المتحدة، والنوادي التي يصل الاشتراك فيها إلى آلاف الدولارات سنويا.. تقدم نفس الخدمة التي يقدمها نوادي الطبقة المتوسطة في الدول الإسكندنافية، وجامعاتهم الخاصة لا تندرج داخل التصنيف العالمي للجامعات بالإضافة إلى مصروفاتها السنوية التي تعد ميزانية خاصة.. في الوقت الذي تقدم فيه كندا وألمانيا تعليم جامعي مجاني لا تستطيع تلك الجامعات الخاصة تقديم عشرة. فأين الرفاهية والامتياز التي يحصل عليه سكان تلك المجتمعات، أم أن الامتياز أن البقية أقل منهم وأنهم يجب أن يبقوا أقل منهم؟!

هل اتضح ما أعنيه.. أن الرفاهية أمر رائع بكل تأكيد -إذا وجدت أصلا-، ولكن إذا لم تكن هناك رفاهية كما أن مقومات الحياة أصلا غير متوفرة لكل من سكان عزبة النخل أو التجمع الخامس.. فنحن نحتاج إلى إعادة النظر في أولويتنا وطموحاتنا.. فالنظام المنوط به التصرف عند وقوع الصخرة على الدويقة أو هطول الأمطار على التجمع.. هو للأسف نفس النظام.

فرامل الوطن!

بكل تأكيد الوطن ليس سيارة.. قد يكون الوطن لا يمتلك لمعظم أبناءه عوامل رفاهية أو أمان بل ولا حتى مقومات المعيشة الكريمة.. لكنك للأسف لا تستطيع بيعه.. وأعتقد أن تجربه إصلاحه أو تغييره لم تكن ناجحة ولا يبدو أنها سوف تنجح إن كررت قريبا.. ولكن البقاء فيه أصبح أشبه بالبقاء في سيارة تهبط من فوق منحدر، والسيارة بدون فرامل أو وسائد هوائية وفي بعض الأركان بدون مقاعد وأبواب.. أعتقد أن الحل الوحيد هو القفز.. قد تتضرر، قد تجد صعوبة في التأقلم خارج تلك السيارة.. ولكنك إن لم تقفز فبالتأكيد سوف تكره السيارة وتبقي في معاناة وترقب للكارثة. ولتعلم أن المعاناة ليست وحدة لقياس الوطنية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.