شعار قسم مدونات

أبعاد الحرب التجارية الأمريكية-الصينية

مدونات - أميركا والصين

خلال حقبة الثمانينات، أصبحت اليابان ثاني أكبر اقتصاد بعد أمريكا، وأصبح حجم التبادل التجاري بينهما الأكبر على المستوى العالمي بعجز تجارى بنسبة 50 بالمئة من إجمالي العجز التجاري الأمريكي آنذاك، لكن 22 من سبتمبر سنة 1985 كان يوما حاسما في تاريخ الاقتصاد الياباني، ففي هذا اليوم تم التوقيع على اتفاق بلازا (The Plaza Accord) بين كل من حكومات اليابان، والولايات المتحدة، وثلاثة دول أخرى لخفض قيمة الدولار الأمريكي أمام الين الياباني، وهكذا بين ليلة وضحاها تم القضاء نهائيا على التهديد الياباني للاقتصاد الأمريكي، ومن المفارقات أن السيد (Robert Lighthizer) روبرت لايتايز الرجل السبعيني الذي تم تعيينه قبل أيام الممثل التجاري للولايات المتحدة كان هو مهندس هذا الاتفاق، ومن المفارقات أيضا أن وضعية الاقتصاد الصيني اليوم تشبه إلى حد بعيد وضعية الاقتصاد الياباني في حقبة الثمانينات، هي صاحبة ثاني اقتصاد بعد الولايات المتحدة، وأكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، بعجز تجارى وصلت قيمته إلى 375 مليار دولار بنسبة تصل إلى أكثر من 60 بالمئة من إجمالي العجز التجاري الأمريكي، فما أشبه الليلة بالبارحة!!

 

النموذج الاقتصادي مصدر القوة والضعف

من المعروف أن نموذج الاقتصاد الصيني يعتمد على السوق الخارجية، حيث تستورد الصين المواد الأولية، وتصدر السلع الصناعية، ومن أهم نقاط ضعف الاقتصاد الصيني اعتماده المفرط على الصادرات، حيث تصل نسبة هذا الاعتماد إلى حوالي 20 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، كما أن حصة السوق الأمريكية من الصادرات صينية عالية نسبيا، حيث تقدر بحوالي 21 بالمئة من إجمالي صادرات الصين، وهذا ما يجل من الصين هي الطرف الأكثر تضررا في حالة استمرار، وتطور هذه الحرب، حيث تشير بعض التقارير أنه في حالة حدوث ركود تام للتجارة البينية مع أمريكا سينخفض نمو الاقتصاد الصيني بنسبة 1.4 بالمئة، أي أن نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني سينخفض إلى حدود 5 بالمئة هذا بالإضافة إلى أن صادرات الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين في اغلبها صادرات صناعة التكنولوجيا العالية، ومن الصعب على الصين أن تجد بديلا عن أمريكا، لكن الصين تملك ورقة قوية، فهي تعتبر في صدارة مالكي السندات الأمريكية بواقع حوالي 1.189 تريليون دولار كما أنها تستورد ثلث انتاج أمريكا من فول الصويا، إلي جانب 25 بالمئة من طائرات البوينج.

 

أما الولايات المتحدة الأمريكية فمنذ تأسيسها، تبنت نموذج اقتصادي يعتمد على السوق الداخلية حيث يتركز على تعريفة جمركية عالية على الواردات، وأجور مرتفعة للعمال لضمان قوة شرائية عالية، وبالتالي خلق سوق داخلية كبيرة، لذلك لا يحتاج الاقتصاد الأمريكي إلى الاعتماد على السوق العالمي على الإطلاق، وربما هذا هو مصدر القوة الحقيقية لاقتصاد الأمريكي، حيث تصل نسبة الاعتماد على الصادرات إلى حوالي 8 بالمئة فقط، بالإضافة إلى أن صادرات الصين إلى أمريكا غالبيتها سلع أستهلاكية وصناعات خفيفة من السهل جدا على أمريكا أن تجد بديلا عن الصين.

 

السبب الرئيسي للحرب التجارية
من الواضح أنه في حالة نجاح استراتيجية "صنع في الصين 2025" ستتمكن الصين من الهيمنة على جميع الصناعات الناشئة في المستقبل القريب، مما يكسبها نوع جديد من القوة والنفوذ على الصعيد العالمي

خلال الحرب العالمية الثانية كان الإنتاج الصناعي الأمريكي يشكل نسبة 38.7 بالمئة من الإنتاج الصناعي العالمي بينما الإنتاج الصناعي الصيني يشغل 0.3 بالمئة لكن هذه المعادلة تغيرت جذريا، و لآن الصين تعد أكبر دولة صناعية بالعالم بنسبة 22 بالمئة من الإنتاج الصناعي العالمي، وقد ساهمت سياسة التحول من الصناعة إلى الخدمات التي تبنتها الدول المتقدمة وعلى رأسها أمريكا من خطوات التطور الصناعي الذي شهدت الصين خلال 40 سنة الماضية، حيث أن التحول الصناعي الذي حققته أمريكا خلال 100 سنة واليابان خلال 200 سنة حققته الصين خلال 30 سنة فقط.

 

لكن الصين اليوم لم تعد راضية عن دورها الذي تلعبه منذ انفتاحها على العالم سنة 1978، حيث تم تحويلها إلى مصنع عالمي للسلع الاستهلاكية الرخيصة يقتات أهلها على الفتات، وعلى حساب بيئتهم، و مواردهم، وصحتهم و حتى ثقافتهم، ولذلك وخلال 2015 تبت الصين إستراتيجية (中国制造2025) "صنع في الصين 2025" هذه الاستراتيجية تشكل خطرا مباشرا على سياسات، واستراتيجيات ترمب القومية التي تعهد بها قبل انتخابه رئيسا لأمريكا خاصة السياسات التي تستهدف إعادة مكانة أمريكا الصناعية، وخلق فرص عمل برواتب عالية للطبقة الوسطى الأمريكية ذات القوة الشرائية العالية، التي هي المحرك الأساسي للسوق الداخلي الأمريكي.

  

ساحة المعركة الرئيسية

صنع في الصين 2025 هي استراتيجية تستهدف تطوير الصناعة الوطنية الصينية خاصة الصناعة التي تعتمد على التقنيات المتطورة في عشرة مجالات أهمها: تكنولوجيا المعلومات، الذكاء الصناعي والإنسان الآلي، و تكنولوجيا الفضاء ومعداته، و تكنولوجيا الطاقة الجديدة، ومعدات السكك الحديدية عالية السرعة، وتكنولوجيا المواد الجديدة المركبة، والمنتجات الطبية الحيوية.

    undefined

 
ومن الواضح أنه في حالة نجاح هذه الاستراتيجية ستتمكن الصين من الهيمنة على جميع الصناعات الناشئة في المستقبل القريب؛ مما يكسبها نوع جديد من القوة والنفوذ على الصعيد العالمي، وهذا ما قد يضع علامة استفهام على مستقل اقتصاديات الدول الأخرى، وعلى رأسها أمريكا التي تحتكر حاليا وإلى حد كبير الجزء الأكبر من هذه الصناعات المتطورة؛ مما يعني أن الصراع على صناعة التكنولوجيا المتطورة التي تستهدفها استراتيجية "صنع في الصين 2025" هي ساحة المعركة الرئيسية للحرب التجارية الصينية الأمريكية الحالية.

 

كيف سترد الصين؟

تباينت آراء المحللين الدوليين بشأن مدى ردة فعل الصين حيث يتوقع بعضهم أن الصين ستكتفي بردة فعل تحفظ ماء وجهها مثل فرض رسوم جمركية على واردات أمريكية، أساسا منتجات الأغذية بقيمة 30 مليار دولار، بينما يرى المتشائمين أن الصين قد تلجأ إلى سياسية إغراق المركب، وذلك عن طريق التخلص من احتياطاتها من سندات الخزينة الأمريكية التي تقدر بحوالي 1.189 تريليون دولار، لكن في اعتقادي أن سياسية إغراق المركب أو ما يعرف في كتاب "فن الحرب" با (焚舟破釜) (أقدم كتاب حربي حول الاستراتيجيات والوسائل العسكرية في العالم لكاتبه سون وو 545 -470 ق.م) هي من المحرمات العسكرية في أدبيات فلسفة الاستراتيجيات العسكرية الصينية القديمة، ولا يلجأ إليها إلى عند الضرورة القصوى.

 

لذلك نحن نعتقد أن الصين ستلعب بأكثر من ورقة، وتهاجم على عدة جبهات على شكل تكتيكات حرب العصابات التي يتقنها شيوعيون جيدا، وفي ضوء ذلك، ستهاجم الصين على أكثر من جبهة، وما الزيارة التي قام بها مؤخرا الزعيم الكوري، وكذلك إعلان افتتاح بورصة شنغهاي العالمية للطاقة لتداول عقود النفط المقومة باليوان الصيني إلا خير دليل على ذلك، كما أن الصين قد تفتح جبهة في الحديقة الخلفية لأمريكا بعد تغلغلها في دول أمريكا اللاتينية بل قد تفتح جبهة داخل أمريكا نفسا خاصة مع وجود العديد من الشركات في الولايات المتحدة تضغط من أجل التراجع عن هذه الحرب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.