شعار قسم مدونات

لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا

مدونات - امرأة تبكي

ممّا لاشكّ فيه أنّ الإنسان كائنٌ هشّ مهما تعالى شأنُه وتعاظم بُنيانُه، تُعييه نسمة، ويحطّم جسدُه فيروس أدقّ من ذرّة الدقيق، وتُقلق نومه بعوضة، وتُدمع عينه جزيئات غبار، ولكثرة وتعدّد أسباب فنائه أحسبُه أحيانًا يعيشُ على غشّ الموت إلى أن يكشفه هذا الأخير ويسحبه من بيننا إليه..

 
لكنّ ورغم ضُعف بنيانه إلاّ أنّك تجدُه تارةً صامِدًا صابرًا أمام أقصى النكبات، وتارةً ينْهار لأتْفَهها.. لأنّ الله يقلّبنا بين القوّة والضّعف، فنجدُه أحيانًا يمنحُنا قوّة التحمّل فتمرّ بنا مواقفٌ كُنّا نحسبُ أنّها أعظمُ من أن نتقبّلها ونعيشها، لكنّه سبحانه وتعالى يضعُ في قلوبنا شيئًا من السكينة والطمأنينة، شيئًا من الرضا والصّبر فنقفُ عاجزين تعترينا الدّهشة لما نملكُه من قوّة، وأحْيانًا أخرى يَجعلُ مُقاوَمَتَنَا هشَّة أمام أتفه المواقف والمحن، فيكون أوّل منزلها "القلب"، حيث عاصِمة الجَسد والروح فتُضعفه وتُوهنه وتزلزلهُ وتفرقُه وتشتته ويُصبح فريسَةً للأفكار والوساوس والأوهام والتخيلات، إلاّ من امتلأت قلوبُهم إيمانًا، قال تعالى: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ"، فإذا أراد الله بعبده خيرًا ألهمه في المواقف العصيبة أن يتوجه إلى ربّه ويسأله أن يربط على قلبه.
 
ولمّا كان لكلّ شيءٍ نقيضٌ يميّزه، فلابدّ للسعادة من حُزن يظهرها ويكون نقيضًا لها، فحياة كلّ منّا لا تخلو من الإثنين معًا فلا سعادة أبديّة ولا شقاء أبديّ، حتى لو كان عمر الفرح قصير وعمر الحزن أطول بكثير… وفي القرآن ذكر الله تعالى الحُزن والفرح معًا في قوله: "لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ". ثمّ إنّ الحُزن لا يعني أبدًا عدم الرّضا، وإن كان مصطلحٌ بشريّ غير دقيق إلاّ أنّه شعورٌ إنسانيّ عام، لا يختص بضعيف أو قوي ولا بمؤمن أو ملحد.. فهو من عوارض الطبيعة البشريّة ولم يكن يومًا من الدّهر محرّمًا في شريعة سماويّة. ورغم ذلك إلاّ أنّنا لا نسلمُ من لومِ النّاس من حولنا إذا ما حلّ بنا هذا الشّعور وكأنّهم يتهموننا بضُعفِ إيماننا أو بعدمِ الرضا بالقضاء والقدر. فكل الأنبياء حزنوا رغم إيمانهم ويقينهم بأن كل ما يأتي من الله خير والأمثلة من القرآن في هذا كثيرة، خاصّة ما ورد في قصّة سيّدنا يعقوب عليه السّلام، في قوله تعالى: "قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ". فالحزنُ ليس له علاقة بإيماننا وإنّما ما يترتّب عنه، من أقوالٍ وأفعال، من صبرٍ أو قنوط، من حمدٍ أو اجحاف..
 

نركُض من أجل تسريع الأحداث ونيأسُ، فننثُر سواد اليأس من حولنا ونقنط… ثمّ فجأةً في عتمة الكآبة، ومن بين ركام الحُزن الذي أنهكنا.. تنبتُ وردةً وتتفتح، وردةً لن تعرف من أين استمدّت حياتها

فالله تعالى يمكنهُ أن يربط على قلبك، ويملأه إيمانًا وسكينة، كما يمكنه أن يجعله قلقًا مضطربًا تتقاذفه أمواج الحيرة واللامنطقيّة، فيترتّب عنه من التصرّفات ما لا يمكن ضبطه. إنّ الربط شيء لا تراه ولا تحسه إنه خفي في قلبك لا أحد يعلم كيف يحدث إلا الله لكن تشعر بآثاره في حياتك في طمأنينتك وسكينتك في ثباتك وصبرك في سعادتك وانشراحك، حين تشعر في الأزمات بفاقة عظيمة إلى الله، ويقين بأنه لا مخرج لك من محنتك إلا الله فهذا بشائر الربط على قلبك، وأجمل ما ورد في هذا السيّاق قوله تعالى في سورة القصص: "وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ"، قلبٌ كفُؤاد أمِّ موسى! إنّ القلب لا يُسمّى فؤاداً إلا إذا توقّد بالمشاعر وتحرك بها، فأمّ مُوسى كاد قَلبُها يَنفطر وكَادت أن تصرُخ من الوَجع والألمِ، كأنّ قلبها نفسه خرج من موضعه وراء ابنها موسى، وهي لا تَدري أن هذَا خيرٌ لهَا لولا رحمة الله عليها فربَط على قلبهَا فأحدث لها ضَبْطاً للشعور لتتحكّم في تصرفاتها لأنّه أرادها لشيءٍ عَظيم… أن تكُون من المُؤمنِين! "لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ". وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: "وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ"، وما هذا إلاّ وصفٌ واضحٌ للشّيء إذا فرغَ من مُحتواه وامتلأ بالهواء، إذن هي قلوبٌ فارغة خالية ليس فيها شيء.

 

والمُتتبّعُ لقصّة أمّ موسى يجدُ أن لا حول لها ولا قوّة، أوحي إليها أن تقذف برضيعها إلى اليمّ وهي لا تدري بعد ذلك ما سيكون مصيره، فأيّ أمّ عاقلة تلك التي ستقدِمُ على هذا الفعل، إلاّ تلك التي أيقنت في قرارة نفسها وأدركت أنّ هذا هو السّبيل الوحيدُ لنجاته، ثمّ يأتي قوله تعالى: "فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ"، ليُخبرنا أنه صاحب القرار الأوحد في كل أمور حياتنا، عندما يشاء هو يُنزّل السّكينة ويربط على قلوبنا بين إصبعيه فنرتاح ونطمئن لمشيئته، فإن أراد لنا السّعادة يُغيّر من أقدارنا فيسعد قلوبنا ويُبعد الحزن عنّا كما فعل مع أمّ موسَى. فالله تعالى يُصيبني دائمًا بالذّهول لعظيم تَصريفه وتسييره للأمور، بانقلاب الأحداث دون أن نشعر، بتحقيق أمورٍ أفضل بكثيرٍ ممّا كنّا نتمنى، في حين كنّا نلعن ونتذمّر، ولو أنّ الأمور حدثت كما أردنا لربّما كنّا خسرت كثيراً، ولتعذّبنا كثيراً. يخيّرنا في شيءٍ فنختار السيّء منه، فيمنعُه عنّا، ومن غبائنا نسْخط، يتيح لنا الاختيار الجيد فنختَار السيّء، ويمنعُه عنّا، لكنّنا نتخبّط في نوبات الغضب والحُزن..

  

نركُض من أجل تسريع الأحداث ونيأسُ ويتلاشى إيماننا إن حصَل ما يُعرقلها، فننثُر سواد اليأس من حولنا ونقنط… ثمّ فجأةً في عتمة الكآبة، ومن بين ركام الحُزن الذي أنهكنا.. تنبتُ وردةً وتتفتح، وردةً لن تعرف من أين استمدّت حياتها، ومن أين أُلهِمت قوّتها، لكنّك لو نظرت جيداً، لوَجدت أن دُموعكَ في تلك اللّيالي الطّويلة هي من أسقَت تلك البذرة.. البذرة التي ألقاها الله في قَلبك حينَ كُنت منكسراً، ولجأت إليه. حينها فقط ستُدرك أنّ الله لو أرَاد أن يَكشِف عنّا الغِطَاء، لخلعْتَ عقُولنَا خلعاً من هولِ تلكَ الاختيارات البائسة التي ركضنا خلفَها ومنحنا دموعنا وقلوبنا قُربانًا لها لتكُون كما أردنَا.. فالله وحدهُ يعلمُ أينَ يكمُن الخير لنا. فإيمان الإنسان، عنوان السّعادة له، فلا نجاة له من اليأس والانهيار السّريع إلاّ بأن يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى يستهديه الطّريق فيُجيبه الجواب الصّحيح على الأسئلة التليدة التي تعييه، ويومها فقط سيذوق معنى السعادة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.