شعار قسم مدونات

مولانا مسألة أمن قومي!

مدونات - العلماء

لنبدأ مقالنا بكلمة مهمة، وهي التي يقولها لسان حال الكثير من الساسة والجماعات المؤيدة لهم، "مولانا هو مسألة أمن قومي"! نعم مسألة مولانا هي أهم المسائل في هذه الحياة، فلقد تناسينا الأحياء ولحقنا الأموات، وحل الجدل حول الأموات، بل إننا لم نحل الخلاف في هذا الجدل الميّت! فيا ترى من هو مولانا هذا الذي نحن فيه مختلفون؟

 

مولانا هو التمثّل الظاهري "للفهم الاقصائي" لأي نوع من أنواع التديّن، ولمّا نتحدث عن التديّن الإسلامي الذي نواجهه كمسألة مهمة في شرقنا الأوسط، من أجل حل المشاكل فيه على وجه الضرورة والخصوص، والانطلاق في هذا المقال يكون من دعوى أن هنالك انفصالًا بين أهل السياسة، وأهل الدين، أي الساسة الحاكمون، والعلماء المفسرون لذلك التديّن، وهذا هو الشق الأول من الدعوى.

 
وأمّا الشق الثاني منها فهو أن العلماء الحرس على باب التدينات المختلفة في الدين الإسلامي، هم أقرب لفهم النص الديني من الساسة، ذلك لأن الانفلاق بين السياسة والدين -كحالة مرضية غير مقبولة في الإسلام- سَبَّبَّ انتزاع تقوى فهم الدين من السياسيّ، وبالمقابل جعل الكثير من العلماء يحتكرون تدينًا معينًا للنص، ومؤدى ذلك هو تكوّن طبقة بين السياسي الحاكم والشعب المحكوم، هم هؤلاء العلماء، ومن ورائهم جماعاتهم المختلفة، بشكل طبقي يشبه ما يوجد في حضارات القرون القديمة إلى حد ما.

 

لطبقة الوسطى، بين السياسي والشعب، والتي تتمثل بتلك الجماعات التي تكوّن النخب المهمة في المجتمع الإسلامي، يجب أن يكون لها دور بنّاء في ترسيخ ثقافة العدل في التعامل فيما بينها

مولانا هو الفهم الذي يسعى العالِم الحفاظ على وجوده، والذي يدّعي أنه مسؤول لأحد الجماعات الإسلامية، والذي لا يكون مستعدًا لأن ينقد ذاته أو أن يتقبل النقد من غيره، سواءً لأصول جماعته أو حتى لفروعها، هو القوقعة الحصينة، ومجرد ذكرنا للقوقعة فإن المعنى ليس بالإيجابيّ!

 

يدّعي أرباب وأتباع كل من هذه الجماعات أن لديه الفهم الأهمّ للدين، وهذه حقيقة، فليس السياسي لديه أدنى إرادةٌ لفهم الدين، ولا العوام المساكين يريدون إشغال أنفسهم بالتدين على طريقة أحد هذه الجماعات؛ ذلك لأن السياسي مشغول بالاستبداد، والشعب مشغول بمناطحة ذلك الاستبداد! وليس هنالك تدين أقرب للدين الإسلامي، يبحث عنه الشعب أو يقدمه السياسيّ العادل، أو وجود جماعة لا تقدّس مولانا، سوى وجود تلك التديّنات التي تحتكر فهم الدين لها.

 
هذا الأمر يؤدي إلى تكريس استبداد مولانا، ويا ترى كم مولانا يوجد في مجتمعنا؟ ثمة مولانا السلفي وأصنافه، ومولانا الصوفي وأنواعه، ومولانا الأشعري وأشكاله، ومولانا المتكلم ومولانا الإخواني ومولانا الإثنا عشري ومولانا الزيدي ومولانا الإباضي، وليس من الخطأ إضافة مولانا الأرثدوكس ومولانا الكاثوليك ومولانا البروتستانت، وقد يكون هنالك وجود لمولانا الفيلسوف، ذلك لكي تزيد الطين بلّة!
 
فوضى مناطحة الشعب المقهور لاستبداد الحاكم تجعلهم غير أولي أولوية للتوجه، لا إلى فهم الدين، ولاا إلى مناكحة الساسة، وفوضى الحب الأعمى لمولانا من قبل أتباعه وأربابه، الحب غير المدروس، حب المراهقة الشهواني غير العاقل؛ يؤدي إلى زيادة رصيد الاستبداد والتسلّط لدى مولانا الأعظم، الحاكم بأمره، فيرسخ كرسيه، ويزيد تيه الشعب أربعين قرنًا يضمن بها هذا السياسيّ الحكم لولد ولده. لذلك فإن المولى التديني المتعدد هو مولانا الأقزم، والمولى السياسي الحاكم، هو مولانا الأعظم. وتقديس الأول يصب في عبادة الثاني!
 
وحتى لو كان مولانا في الجماعة الإسلامية مضاد لذلك المستبد، فإن طرق الطرح العامة المتعنتة المتمثلة في مولانا المضاد للحاكم، هي ذاتها الموجودة لدى مولانا الذي يقدس مولاه التديني؛ ومن ثم مولاه السياسي الأعظم، فليس مولانا الداعشي ومولانا التحريري وغيرهم لديهم ذلك المشروع الإصلاحي الذي يتعامل مع مرض الاستبداد وفق الطريقة الوسطى!

  undefined

 

إن المقاصد العليا للدين هي أمور ثلاثة مهمة التوحيد والعمران والعدل، وإن لم تُرى في بيئة سياسية بشكل واضح، وإن لم تسع الدولة في تحقيقها، وإن لم نر النخب الدينية تفقهها، أو أن يطالب الشعب بها، وإن لم تكن ثمة مجرد محاولات لصياغة خطط عملية فعلية للسير نحوها، فلنقرأ الفاتحة على روحنا، فإننا في عداد الحضارات التي لن تحيا إلا بعد دهور بيولوجية، فإن لم يكن العدل وسام الأمة، ولا العمران نيشانها، ولا التوحيد دستورها التي تمشي عليه، فكيف سنعتبر أنفسنا منافسين حقيقيين للأمم الإنسانية التي نشاركها هذا الكوكب الجميل!
 
هذه المقاصد العليا للإسلام، والتي تمثّله بشكله المميز، وهي مادية معنوية، لها خاصية الانتشار في المجتمع، في كل مناحيه، فالعدل هو عدل فكري عقلي، وهو كذلك مادي ملموس، وكذا العمران له صيغة معنوية تمثل العقلانية والتوسط في فهم الواقع بلا إفراط أو تفريط، ولها صيغة أخرى مادية متمثلة بتكوين المؤسسات، ومثلهما التوحيد؛ بمعناه الخاص للأمة الإسلامية، توحيد الإله وتوحيد رسول الله، وهو كذلك مشترِك في شقه المادي مع بقية الأمم، فالأمة واحدة ووحدتها تفرض تحويل الخلاف غير المستساغ إلى اختلاف مستساغ تكون معه الحياة محقِّقة لهذه المقاصد.
 
إن الطبقة الوسطى، بين السياسي والشعب، والتي تتمثل بتلك الجماعات التي تكوّن النخب المهمة في المجتمع الإسلامي، يجب أن يكون لها دور بنّاء في ترسيخ ثقافة العدل في التعامل فيما بينها، وكذا السير في عمران فكرها، وتوحيد دينها وأمتها، وأن تكون حلقة وصل حقيقية بين الحاكم والمحكوم، لا أن تكون مشغولة بنفسها، تنكفؤُ على أتباعها، دونما اكتراث للشعب المعدوم، فدورها الذي ينطلق من مكانتها الوسيطة بين الحاكم والمحكوم يعطيها هذه الأهمية.

 
واعتبار مولانا الأقزم، الخاص بكل جماعة، مسألة أمن قومي لتلك الجماعة، يؤدي بالضرورة إلى اعتبار مولانا الأعظم أيضًا مسألة أمن قومي، وما مسألة الأمن القومي تلك، إلا حقٌّ أريد بها باطل، تزيد الاستبداد، وتنزل البلاء على العباد، فلا هي تبغي استنزال رحمة الخالق، ولا هي تنزل مقاصد الإسلام في الدنيا، وبها نعيش مرحلة لا يمكن الاقتصار عليها بأنها عهد الاستبداد الذي حكى عنه قديمًا، غير واحد من مفكري أمتنا، بل إننا نعيش مرحلة أدنى من ذلك، هي مرحلة فوضى الاستبداد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.