شعار قسم مدونات

رفقا باللاجئ

blogs - migration

ونحن نتخبط وسط توابع جرم لم نرتكبه، أي وسط متاهات الحياة، ننتقل أحيانا من مكان إلى آخر بشكل قطعي، فنضطر حينها لأن نودع ماض يظل يسكننا بألم يخفف من حدته أمل اللقاء، وأن نحكم بقبضة من حديد دموع ألم الابتعاد عمن جعلوا من أكثر أيامنا شحوبا أبهاها. الإلكترون يحوم حول نواته، والإنسان يسكن بمكان يسكن روحه فيما بعد ويتحول من أركان ثابتة إلى حركة لامتناهية من المشاعر والذكريات، يغزو خصوصيته لأنه يحتويها أولا وأخيرا ثم يشكل له أفقا واسعا للتأمل والإبداع.
 
تمر الدقائق والثواني، وقد لا نوقف أنفسنا ومضة من الزمن حتى نلتف يمينا وشمالا لالتقاط بعضا من نفحات المشهد المعاش، إلى أن يحين زمن ندركه فيه ونعيش تفاصيله بابتسامة يائسة تحت سيطرة الحنين، فالمكان بضيقه أو شساعته، بقربه أو بعده، يبقى نابضا في قلوب ساكنيه، من اعتادوا على كل تفصيل من تفاصيله التي نحتها الزمن بدقة وشغف، فإن كان مدينة اعتادوا على شوارعها المضاءة وأركانها المظلمة، تعايشوا في أزقتها ولون سمائها، اندمجوا وسرعة مشي الطلبة، وتقبلوا ضجيج السيارات والحافلات نهارا والأصوات الخافتة التي تدق على سمعهم وهم على حافة النوم ليلا، فالخافت لا يبقى كذلك وسط صمت الليالي، بل يحتفل بنصره ويوقظ متجاهليه من النيام . وإن كان قرية، تعلقوا بموسيقى الهدوء والصمت، بسيمفونية ورق الشجر، برقصة الرياح المتناسقة المتناغمة، وبعواء الذئاب الليلي، ثم تذوقوا من طعم الحياة التي باتت تختزل في السلم والسلام المفتقدين في هذا العالم المتناقض والعنيف.

 

كل راحل يتألم، لأن المكان هو الركح الذي تتمسرح عليه أحداث الرواية أو القصة أو اللوحة أو القصيدة أو المسرحية، حسب ما قاله محمد اكويندي، وأنا أضيف ".. أو الحياة.. "

وسيكون من غير المعقول الحديث عن التنقل دون الالتفاتة لما يخلفه الفراق من جرح عميق يأخذ من الزمن قسطا وفيرا قبل أن يلتئم، وهذا الفراق لا يتعلق بالمكان كمدينة أو قرية فقط، وإنما يتعلق أساسا بمن أعطوا تلك الصورة المنفردة عن كل زاوية من زواياه، كالأصدقاء مثلا، الذين ينشدون عالما موازيا لعالم وحدتنا القاهر، لأنهم يمتلكون أصدق الابتسامات، تلك التي قد تراودنا في الحلم كنسمة خريف عابرة، وتزورنا برفقة الهيام ليلا لترحل بعد ساعات في خطى قدوم الشمس، ولأن كذلك برفقتهم، نكون فكرة عن أنفسنا وعن الصدق الكامن في دواخلنا والكفيل ببناء مشترك لمزيد من العلاقات الإنسانية النقية والطاهرة من كل دوافع مرتبطة بالمصلحة وما جاورها. وهكذا، فإن الرحيل مر مرارة العلقم، وهو نفسه ما يجعل من الانفتاح على المكان الجديد أصعب وأشقى على النفس التي تعتاد. فنحن نكون على علم بأنه كما اعتدنا قبلا سنعتاد مستقبلا، ولكن الاشتياق لا يموت وما سبق أن كسبنا من آلام طيلة أيامنا لن يرحل مطلقا، ما دمنا أوفياء لأنفسنا ولشعورها الفطري.

 
قلة من الناس هم من أدركوا وعاشوا أقصى حدود هذه المعاناة، معاناة الرحيل والفراق، ومنهم اللاجئ والمغترب، الأول الذي استؤصل من أرضه استئصالا، ذلك الذي لو امتلك خيارا لما غادر وترك خلفه ذكريات شجر الزيتون وسحر عيون بلاده، اللاجئ الذي فقد الكثير ليس لشيء إلا لأنه بريء من كل الصراعات الأنانية والمصالح المتعجرفة، وحتى وإن بدا لنا ابتعاده عن الحرب خلاصا، إلا أن ما يكنه من حنين يبقى خفيا ومسجونا في قفص ذاكرته التي خلدت صور مسقط رأسه وزجت بهم في ملفات ما لن ينسى، والثاني الذي غادر مكرها، باحثا عما لم يجد، هو من صار يودع أقرباءه وكأنه لن يلاقيهم أبدا، ومن استنشق رائحة نبتة كانت تفوح بعطرها قرب منزل أسرته أو بضواحي الحي ثم دمعت عيناه. هما، اللاجئ والمغترب، زهرتان جميلتان، قطفهما شبح الظروف من الحديقة بعدما دمر كل شيء.. حتى الحديقة.

 
نعم، كل راحل يتألم، لأن المكان هو الركح الذي تتمسرح عليه أحداث الرواية أو القصة أو اللوحة أو القصيدة أو المسرحية، حسب ما قاله محمد اكويندي، وأنا أضيف ".. أو الحياة.. "، نعم الحياة، التي تغير من ألوانها عندما نغادر مكاننا، أصل المعلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.