شعار قسم مدونات

عنف وعنصرية وجرائم.. وجه أميركا الذي فضحته أغنية

blogs أغنية هذه هي أمريكا

مطاردات، عنف، قتل، جرائم، سيارات تحترق، سيارات شرطة، نقود تتطاير وغيرها الكثير تحصل في الخلفية، بينما يؤدي تشايلدش غامبينو رقص مع مجموعة من الراقصين الذين يرتدون ثياب طلاب المدارس، والمُشاهد للمرة الأولى لا يمكنه أن يولي ذرة انتباه لما يحصل في الخلفية من عنف وقتل بسبب الإلهاء في المقدمة.. بينما يكرر جملة "هذه هي أمريكا" مراراً وتكراراً.. ولو أنه أضاف "هذا هو العالم" لما أخطأ القول.

حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، احتلت المرتبة 11 ضمن قائمة الأكثر رواجاُ على اليوتيوب، وحصدت ما يقارب 54 مليون مشاهدة في غضون أربعة أيام من إطلاقها والأرقام في ارتفاع.. إنها أغنية وفيديو "هذه هي أمريكا This is America" التي أطلقها مغني الراب الأمريكي دونالد غلوفر والمعروف باسم تشايلدش غامبينو، ويقال أنه أفضل الفيديوهات التي انطلقت في عام 2018 حتى الآن.

عندما سمعت الأغنية للمرة الأولى، لم أستطع فهم أغلب الكلمات، فلغة مغني الراب العامية صعبة الفهم لشخص لغته الأم ليست الإنجليزية، ولكن بعدَما قمت بالحصول عليها مكتوبة وترجمتها وبعدما شاهدت الفيديو، طغت الدهشة على كل حواسي، فيديو عنيف جداً ولكنه بالرغم من العنف السائد فيه إلا أنه يفيض بالرمزية في كل ثانية. المشاهد، تعابير الوجه، الحركات، الثياب، الألوان.. كلها تحمل من المعاني ما نحتاج إلى ساعات لتحليله. 

في أربع دقائق مصورة يُرينا "تشايلدش غامبينو" رسائل عن العنف ضد السود، عن استخدام السلاح، عن العنصرية، عن احترام الماديات وعدم الاكتراث بأرواح البشر

يقوم في بداية الفيديو بإطلاق النار على رأس رجل من الخلف بعدَ أن يقوم بتغطية رأسه، تقليداً للطريقة التي كان يتم فيها إعدام السود قديماً، مقلداً وقفة شخصية "جيم كرو"، وهي شخصية ظهرت في إحدى المسرحيات التي تسخر من السود في القرن الثامن عشر، وقوانين "جيم كرو" هو الاسم الذي أٌطلقَ على قوانين الفصل العنصري في تلك الفترة.

والرجل الذي يتم إطلاق النار عليه هو والد "تريفون مارتن" الشاب الأمريكي من أصل إفريقي الذي أطلقَ عليه النار في عام 2012 دون أي سبب وتم تبرئة قاتله.. ومن ثُم يقوم بإطلاق النار بشكل مفاجئ على جوقة كنيسة، إشارة إلى إطلاق النار في كنيسة تشارلستون في عام 2015 والتي ذهب ضحيتها 9 أمريكيين من أصول أفريقية، وفي النهاية يشير إلى حوادث إطلاق النار المتكررة في المدارس عن طريق تشكيل مسدس وهمي بيديه يجعل كل الطلاب الراقصين من حوله يهربون.

وكل حوادث القتل في الفيديو هي حوادث فجائية غير متوقعة على الإطلاق، فيشعر المشاهد أن دوي العيارات النارية ينفجر في أذنه لتطغى الدهشة على كل حواسه في محاولة لاستيعاب ما رآه.. وهي فجائية بقدر ما كانت فجائية عندما حصلت في الحقيقة وعلى أرض الواقع، وسطَ دهشة الجميع، ووسط الانشغال في مجريات الحياة. وبعدَ كل حادثة إطلاق نار، يعود مباشرة للابتسام والرقص والغناء وكأن شيئاً لم يكن، مع تكرير جملة "هذه هي أمريكا".

هذا ما يحصل في كل مكان، عنف، قتل، جرائم، سرقة، عنصرية والأشخاص لا يولون أي ذرة انتباه لها بسبب ملهيات الحياة التي عبرَ عنها "بالرقص والغناء".. ثُم يظهر مجموعة من المتفرجين الذين يرون كل ما يحصل ولكنهم يكتفون بحمل هواتفهم والتصوير دونَ أي ردة فعل تذكر..

في أربع دقائق مصورة يُرينا "تشايلدش غامبينو" رسائل عن العنف ضد السود، عن استخدام السلاح، عن العنصرية، عن احترام الماديات وعدم الاكتراث بأرواح البشر، عن المادية التي تطغى على الحياة، عن الملهيات التي تجعلنا لا نرى كل العنف من حولنا، عن احتلال السوشال ميديا لحياتنا، عن أمريكا البراقة الجميلة المليئة بالظلام من الداخل..

في أربع دقائق -ظهرت بشكل مفاجئ أثناء تنقلي في اليوتيوب- شعرت أن ما شاهدته، هو نبذة عن الأعوام التي مضت في كل العالم، وومضة عن الأعوام القادمة إذا استمرَ الحال على ما هو عليه، عالم مليء بالعنف والعنصرية والجرائم، جرائم ضد السود هناك، جرائم ضد الشعب هنا، جرائم من أجل المال والسلطة هنا وهناك، دم يناسب ومن ثُم يليله رقص دون اكتراث، أرواح تزهق مقابل المال والمادة وكاميرات تلتقط المشهد دونَ أن تتدخل، فوضى كبيرة في خلفية المشهد، ونحنُ لا نرى إلا الرقص في الأمام، لا نرى إلا البريق الذي يخفي الظلمة الكبيرة، لا نرى من الصورة المخضبة بالدم الأحمر، إلا ربطات العنق البراقة.

وهنا تظهر قوة وسائل الإعلام والترفيه الذي يمكن استخدامه لإحداث نقلة كبيرة في وجهات النظر، فإذا كانَ ما قدمه غامبينو قادراً على جعلي أبحث لأكثر من 6 ساعات عن كل الرمزية التي عرضها وقادراً على تحريك شعور كبير بالألم والحرقة في داخلي على الرغم من عدم وجودي ضمن المجتمع الأمريكي.. فهو قادر على فعل الكثير.. 

ولنتفق هنا أنني لست من دعاة نوع موسيقي بحد ذاته، ولست مهتمة بالراب الأمريكي أو غيره، لكني أهتم بالرسائل التي ينقلها الفن بجميع أنواعه، الرسائل التي تجعل العالم يستيقظ.. وحسب توقعات بعض النقاد في المجال الفني، فإن هذا الفيديو هو الأفضل خلال عام 2018 ويحمل الكثير من الذكاء والإبداع والرسائل الهادفة.. هذه هي أمريكا.. وهذا هو العالم، لكن غامبينو كان شجاعاً بما يكفي ليتحدث، ويطلق رسالته أمام الملأ.. على عكس العالم.. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.