شعار قسم مدونات

الحاضر هناك.. الغائب هنا.. الرواية المعرفية

blogs- الرواية

بدأ هذا المقال حول فكرة رواية الخيال العلمي والنقص الحاد في هذا النوع من المحتوى في الأدب العربي. لكن فكرة رواية الخيال العلمي ساقتني إلى الرواية التاريخية، ومن ثم الرواية الفلسفية. وأدركت ان في أدبنا العربي نقصاً حاداً في كل منها، مما جعلني اتقمص دور الناقد الأدبي الحاذق وأصنفها جميعاً تحت عنوان ابتدعته لنفسي: الرواية المعرفية.

 

ربما يكون "أحمد خالد توفيق" و"نبيل فاروق" أول اسمين يخطران على البال حين تذكر روايات الخيال العلمي. إلا أننا حتى حين نستعرض ما تركه لنا هذان الاسمان الكبيران سنرى أن في الأدب العربي المعاصر خانة واسعة جداً تضم روايات الخيال، والغموض، والرعب، والتشويق، وفي ركن صغير قد تتداخل احداها مع ما يعتبر "خيالاً علمياً" حقيقياً. نستطيع أن نعتبر مصر حاضنة ممتازة لهذا النوع من الروايات التي تنضوي تحت هذا العنوان العريض، فقد برزت أسماء مثل تامر إبراهيم، شيرين هنائي، حسن الجندي، وغيرهم.

 

الـ"رواية" التي تطغى على المشهد الأدبي العربي هي الرواية الاجتماعية. وربما يكون لذائقة الجمهور الدور الأكبر في رواج هذا النوع، بالإضافة إلى رغبة الكاتب العربي عامةً في النجاح السريع

وقد رفد جميع هؤلاء المكتبة العربية المعاصرة بالكثير من الروايات والقصص القصيرة المليئة بالتشويق، إلا أنها تجنبت ببراعة الخوض في معترك الخيال العلمي إلا من حيث التعرض السطحي لبعض المفاهيم العلمية. ربما يكون الأستاذ أشرف احسان فقيه من أفضل من تناول قصص الخيال العلمي كما يجب ان تُتناول، ربما لسعة اطلاعه وقراءاته الكثيرة في أدب الخيال العلمي الغربي وخلفيته العلمية، إلا أنه حين قرر أن يكتب عمله الروائي الطويل الأول، اتجه إلى الرواية التاريخية. ربما يعزى النقص الحاد في أدب الخيال العلمي إلى غياب شعبية العلم التجريبي في الأوساط العربية اجمالاً، واتجاه الأنظمة التعليمية العربية إلى الفصل القاطع بين التخصصات الأدبية والمجالات العلمية التجريبية. ربما يلعب المخزون الأدبي العربي الزاخر بشتى ضروب البلاغة دوراً في خلق حاجز بين أبناء الوسط الأدبي العربي وبين قبول رواية الخيال العلمي كصنف أدبي، فيتسامحون على استحياء مع اعتبارها أدباً للناشئة، على ما في ذلك من اجحاف لكاتب الخيال العلمي، وانكار للمهارة العلمية والأدبية العالية التي يتطلّبها بناء رواية محكمة انطلاقاً من نظرية علمية دون املال القارئ وادخاله في متاهات النظريات العلمية الجامدة.

 
أما بالنسبة للرواية التاريخية، فربما تكون أكثر حضوراً من سابقاتها في المشهد البيبلوغرافي العربي. فمن يوسف زيدان، إلى محمد المنسي قنديل، وأشرف فقيه، وغيرهم. وربما اتعرض هنا إلى النسيج الجميل الذي مزج فيه الدكتور منذر قباني بين النظريات الفيزيائية الكونية والاسطورة وقام بنثرها في خط تاريخي عبر حبكة قصصية بديعة في ثلاثية فرسان وكهنة، قطز وقرين، فخرج علينا بثلاثية روائية تجد لها مكاناً في أدب الخيال العلمي، وفي الرواية التاريخية أيضاً. ورغم أن الرواية التاريخية أكثر حضوراً من اخواتها، إلا أن المكتبة العربية بحاجة للمزيد، بالنظر إلى الأرض الخصبة التي يخلقها تاريخ لم تكتبه أيدينا. اننا بحاجة إلى إعادة قراءة تاريخنا بعين جديدة، وارجاع قطع الأحجيات الناقصة والتي أهملت عمداً إلى مكانها في المشهد التاريخي المتكامل، وإعادة النظر في ارثنا التاريخي بعد ان نحاول وضع تحيزاتنا جانباً. ان كاتب الرواية التاريخية الناجح يمازج بمهارة بين الواقع التاريخي والأحداث المتخيلة، ويطرح بحبكاته المصوغة بإتقان أسئلة تدفع القارئ إلى البحث والتمحيص واسترجاع التاريخ.

  undefined

 

أما الرواية الفلسفية، فربما تكون الأقل حضوراً في المشهد العربي. ولا اقصد هنا بالرواية الفلسفية تلك التي تسلط الضوء على دواخل ابطالها، ولا تلك التي تمتاز بالتحليل النفسي المتقن لأبطالها كما فعل أمير تاج السر في "صائد اليرقات"، وإنما أعني تلك الروايات التي تعتمد حبكاتها على أفكار فلسفية محضة، كما يفعل جوزيه ساراماغو في روائعه المجنونة، وكما فعل مارتن باج في "كيف أصبحت غبياً"، وكما فعلت جوستين غاردر في "عالم صوفي". والأمثلة في الأدب الغربي كثيرة. قد تختلف الرواية الفلسفية عن سواها بأنها يمكن أن تُقرأ على مستويين: فقد يقرأ القارئ الحبكة لوحدها، منفصلة عن خلفيتها الفلسفية، وقد يقرؤها مع اسقاطها على الخلفية الفلسفية لها. ربما يفسر ذلك الاختلاف الشديد في تقييم هكذا روايات، حيث ان الحبكة قد تكون باهتة نوعاً ما إذا تم فصلها عن الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه، بينما يكتمل بريق الفكرة في هكذا روايات عند فهم الحبكة من خلال اطارها النظري الفلسفي.

 
إن الـ"رواية" التي تطغى على المشهد الأدبي العربي هي الرواية الاجتماعية. وربما يكون لذائقة الجمهور الدور الأكبر في رواج هذا النوع من الرواية دون غيره. هذا بالإضافة إلى رغبة الكاتب العربي عامةً في النجاح السريع، وحرص دور النشر على البيع، مما يؤدي إلى رواج الكتاب كسلعة تجارية تساعد القارئ الكسول على اكتساب مظهر المثقف المهتم بالكتب، لا كخوازن معرفية.
 
لأجل كل ذلك، قد يرى المشاهد نمواً في سوق الكتب، ورواجاً لنوادي الكتاب ومجتمعات القراء، إلا أن ذلك النمو في المشهد قد يكون خادعاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار انخفاض المستوى المعرفي في ما يقدم في المكتبة العربية على أنه "كتاب". ربما لن يكون من السهل بمكان أن نقف في وجه هذا الطغيان من الغثاء المطبوع على ورق، إذ أن البداية في التغيير المنشود لا تكمن في ثنائية الكاتب-القارئ، وإنما في تغيير توجه المجتمع عامةً بعيداً عن المحتوى الهش والسطحية والنجاح السريع، والتخلص من وهم قفزات النجاح، والعودة إلى المفهوم الكلاسيكي للنجاح، والذي يتمركز حول الجد، والاجتهاد، والاتقان، وصعود السلم درجةً درجة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.