شعار قسم مدونات

شيء ما في داخلي يريد الخلاص!

مدونات - غضب عنف قوة خلاص ظلم
 
أدعى كريم.. وأنا طالب جامعي.. وسقف تطلعاتي الآن لا يتجاوز التخرج من الجامعة، الحصول على وظيفة محترمة وعيش حياة رتيبة بعد أن كانت أحلامي تلامس عرش السماء مذ كنت في عمر السابعة.. استغرقت خمس عشرة سنة لأدرك بعض الأشياء.. وأبدأ في استيعاب الأسباب المضمرة وراء ذلك شيئا فشيئا.. عشت حياتي طفلا شغوفا حالما يطمح لفعل المستحيل بقلب نابض متفائل وبنية عمياء صادقة.. أرغمت نفسي الطفولية آنذاك أن تحلم أحلاما كبيرة.. فلطالما نام هذا العالم على أحلام كبيرة ليستيقظوا صباحا ولا يفعلون شيئا..!
 

خمس عشرة سنة وسط حياة نمطية عادية تتكرر كل يوم.. مقررات تعليمية ونظام تربوي بأهداف محددة تصنع حولك إطارا زجاجيا معتما لا ترى فيه غير ما ينعكس في داخله.. وتضع لك حدودا محرمة عليك الاجتياز.. كما تقوم بترويض أفكارك الغير عادية شيئا فشيئا تارة بالتهديد وتارة أخرى بالعقاب..! لست أكثر من مجرد رجل آلي تتم برمجته طيلة عدة سنوات لتنفيذ أشياء محددة لغاية نفاذ مدة صلاحيتك.. فيتم نفيك بصفة نهائية إلى مستودع الخردوات..

 

المسألة مسألة وعي ثقافي واجتماعي فقط.. فبوجوده لدى غالبية الناس سيصنع مجتمعا واعيا قادرا على التفريق بين الصواب والخطأ.. يدرك جيدا ما له وما عليه.. سيصنع مجتمعا قويا

صنف الفيلسوف ماسلو في هرمه الشهير أولويات الناس إلى خمس مستويات.. أسفلها الحاجات الفسيولوجية وأرقاها مرتبة تحقيق الذات.. وبينهما الحاجة للأمان والحاجات الاجتماعية ثم الحاجة للتقدير كالمكانة الاجتماعية والسمعة وغيرها.. وأجريت مؤخرا عدة تحديثات على الهرم أضافت مستويين آخرين قبل تحقيق الذات الذي أصبح في المستوى السابع إحداها الاحتياجات الإدراكية المتمثلة في المعرفة والهدف وإدراك الذات..! ورغم أن التجارب الكثيرة أثبتت القدرة على تحقيق الحاجة من مستوى أعلى دون المرور عبر التدرج الذي يفرضه تشكيل الهرم إلا أن حرمانك من إشباع معدتك مثلا لن يدعك تفكر في تحقيق أكثر من ذلك.. مما يحد من مدى طموحاتك ويحصرها في أسفل الهرم وبالتالي فالوصول لقمة الهرم يتراءى لك مستحيلا.. وأقصى ما تفكر فيه المرء في الحياة هو تحقيق الحلم الأمريكي..

 

يمكننا وضع هرم هيكلي بنفس الكيفية للنظام التربوي.. أدنى مراتبه الحاجة للقراءة والكتابة.. وأعلاه الوعي الثقافي والاجتماعي.. وتتوسطه أكثر النقاط حساسية ألا وهي المشاعر والفكر والقيم..! وعندما أتحدث عن الفكر لا أقصد مفهومه اللغوي ولا المتداول لدى الغالبية من الناس.. بل أتحدث عن مفهوم فلسفي معقد أحاط به الروائي البريطاني جورج أورويل في كتابه الشهير 1984.. كيف لك أن تتحكم بالفكر لدى الآخرين وتستغله لخدمة مصالحك عبر التخويف والترهيب النفسي.. كيف تقنع شخصا فقيرا ليس له ما يسد به رمقه أنه غني وأفضل من ملايين الناس في العالم.. كيف توهم شعبا كاملا أن حياتهم رغيدة وكل شيء على ما يرام وتجعلهم يقدرونك على ذلك.. فمثلا نأخذ طفلا صغيرا ونخبره أنك فاشل ولا تستطيع فعل شيء ونكرر هذه الجملة له كل يوم.. ستظل هذه الجملة راسخة في عقله للأبد وحتى بعد مرور سنوات عديدة سيظل يعتبر نفسه مجرد فاشل لا يصلح لشيء.. فالأفكار الخاطئة التي يتم تمريرها لك بصفة غير مباشرة سواء عبر محيطك الاجتماعي أو عبر المقررات التعليمية ستظل راسخة بذهنك وستصبح تابعا لها دون إرادتك.. بل تحت إرادة النظام.. وبهذا الروتين اليومي الذي تتعود عليه بصفة متكررة وضغط المجتمع الذي يدفعك لفعل شيء لا تحبه لن يفسح لك مجالا لتطوير الحس الإبداعي لديك وفعل ما تريد وستجد نفسك بعد عدة سنوات من الدراسة مجرد رقم على هامش الحياة..!

 

نظل نطرح السؤال دائما لماذا نحن متخلفون عن الغرب كثيرا.. وظللنا في هذه النقطة دون أن نفعل شيئا.. فتارة نتوجه بأصابع الاتهام للنظام التعليمي المعتمد في البلد.. وتارة أخرى نبدع في الحديث عن نظرية المؤامرة.. المسألة مسألة وعي ثقافي واجتماعي فقط.. فبوجوده لدى غالبية الناس سيصنع مجتمعا واعيا قادرا على التفريق بين الصواب والخطأ.. يدرك جيدا ما له وما عليه.. سيصنع مجتمعا قويا لن يستطيع الإعلام التلاعب به كما يشاء.. مجتمعا مثقفا فضوليا ومهتما بالبحث العلمي والأدبي.. مجتمعا يقدر حس الإبداع لدى الآخرين ويتيح فرصة لكل شخص لفعل ما يحب وما أتى من أجله في هذه الحياة..! وهذا هو الهدف من ترويض الفكر.. صناعة شعب لا يمتلك وعيا ثقافيا اجتماعيا، محروم لا يناقش ويقبل بأي شيء.. فالشركات الرأسمالية الجشعة تستهدف هذه الفئة في العالم لتشغلها طيلة اليوم كرجل آلي مقابل أزهد الرواتب دون أن تلقى اعتراضا.. سوقا رخيصة سهلة لترويج المنتجات الرديئة بأعلى الأثمان.. لهذا فقط لا يريدون مجتمعا مثقفا واعيا..!

 
وفي داخلي هذه الأفكار المتمردة.. أفكار متمردة تريد الخلاص!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.