شعار قسم مدونات

صدأ مفتاح العودة.. لماذا لا يفقد الفلسطينيون الأمل أبدا؟

blogs مفتاح الدار

سبعون عاماً مر ولم تنتهي الحكاية بل تشابكت أكثر، لعل القضية لم تمت ولكن نحن الذين أصبحنا نموت، ومفتاح الدار الذي تركته يا جدتي صدأ وبدأ يفقد معالمه، حتى أظن أنه لن يفتح باب الدار لو عدنا، صحيح متى سنعود؟ في ذات مرة كنت أسأل جدتي هل حين يرحل الغزاة ستعود فلسطين كما كانت؟ كان جوابها حينها أن الغزاة كالرعد في عواصف الشتاء شديد ومخيف ولكن الحقيقة أنه ما أن ينتهي لن يترك مكانه سوى نبتة صغيرة نقتلعها، وهذه النبتة هي الدرس الذي نتعلمه بعد الحرب، نأخذها ثم لا يبقى من أثره بعدها شيء، حتى ينسى أنه مر من هنا يوماً، وأن الغزاة كالنار حين تشتعل تحرق كل ما في طريقها ولكن نحن الماء ما إن أصابها حتى بردت وتلاشت، صحيح أن دخنة قوية تجوب السماء بعد حريقٍ كهذا، لكن في النهاية لا بد أن تعود الأجواءُ إلى صفائها مهما كان حجم النار وقوتها.

هم يا ابنتي حتى ليسوا غزاة، هم مجرد متطفلين، كالسرطان تماماً يحتاج جرعة قصوة من الكيماوي ليرحل لكنه ينهيك إن أصاب أملك، لذلك عليك قتاله بصبر، فالغزاة يا بنيتي ليسوا غزاة إن لم يغزو أرواحنا. قلت بحزن حينها لكنهم غزو أرضنا!، فضحكت، وارتسمت بالتجاعيد خريطة على وجهها من الحزن والألم، ثم قالت بكل بساطة وثقة: حتى وإن غزوها هم لن يملكوها أبداً، ففلسطين حتى وإن نسيناها لن تنسانا، فالأم يا طفلتي تعرف حملها جيداً، وفلسطين لن تقبلهم أولاداً لها مهما فعلوا، المهم أن تبقى أرواحنا حرة لا تأسرها غرائز الحياة ولا تلهيها مشاغل العيش ولا يغزوها حب أحد غير حبيبتها فلسطين لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للعدو فيها أن ينتصر حقاً.

بعد مرور زمن على ذلك الحديث يا جدتي رحل الكثيرون، حتى أنت رحلتي، لكن الغزاة بقوا ولا أعرف إن كانوا أصبحوا بعد كل هذا الوقت غزاة حقيقيين أم لا، ولكني أعرف أن بقائهم لم يفعل شيئاً سوى أن حول فلسطين بالنسبة لنا لجنة، فلسطين باتت غايةً كالجنة تماماً، وبات الفرق الوحيد بينهما هو المكان، ففلسطين هي جنة الله على الأرض ووسيلة لتقرب إليه فيها، فلسطينُ هي الجنة التي تقود إلى الجنة.

صحيح أن مفتاح الدار صدأ لكننا لسنا بحاجة إليه، فباب دارنا سوف يعرفنا ما إن مر ريحنا بجانبه، سوف يألفنا
صحيح أن مفتاح الدار صدأ لكننا لسنا بحاجة إليه، فباب دارنا سوف يعرفنا ما إن مر ريحنا بجانبه، سوف يألفنا
 

صحيحٌ أن الحياة أشغلتنا ولكن الموت ما أخافنا أبداً يا جدتي، ولعل التهجير غيرنا ولكنه لم ينسينا "لأنه الأسى ما بينتسى" والأرض كلما عطشت تروى بالدماء دون تردد، والغزاة لم يتعلموا يا جدتي بعد هذا الزمن أن الهجر بالحب تعلق، وأن أعظم قصص العشاق التي خلدها التاريخ هي قصص المتفرقين منهم، وفلسطين هي أعظم قصة بينها.

هم لا زالوا لا يعلمون أن أبو أحمد الذي كان يجلس على باب المخيم طول ستين عام يحمل حسرات الغربة في قلبه، ويقول فيها أشعار الحزن كلما ألقى عليه أحد المارة السلام وسأله عن حاله، ليؤلم بكلماته قلوب كل من في الطريق رحل، أبو أحمد ذهب للقاء ربه، هو رحل أخذاً معه حسراته وأشعاره، لكن مكانه ما فرغ فأحمد يجلس مكانه الآن ينتظر ذات الشيء الذي انتظره هو قبله، جالساً يعيد ذات الجملة التي كان يقولها والده كل ما سألته إم أحمد "إنت ليش قاعد هان؟ نفسي أفهم شو بتستنى!".

 

أحمد بات يُسأل ذات السؤال ويجيب زوجته بذات الثقة التي كان يجيب والده أمه بها "أنا بستنى المخبر إلي أجى على قريتنا يقلنا إنه اليهود وصلوا القرية إلي جنبنا وأنه نطلع النسوان والولاد والعجزة، بستنى يقلنا إنه اليهود طلعوا وصار لازم نرجع، أنا بستى عمي محمد إلي مات بين إيدين أبوي في حصار القرية، بستنى أحكيلوه عن الحصاد والزرع، بستنى عمي أيمن يرجع يزوج حفيده إلي صار شب، بستنى ضحكت أبوي لما يشوف داره، كل هذا بكفي ولا أحكي كمان" يقول تلك الجمل كعادته ويمسح بطرف كمه دموعه، تلك التي رغم شيبه لا يستطيع منعها من الهطول، هم لا يعلموا أن أبو أحمد وأبنه هم الوطن. هم حتى لم يفهموا يا جدتي أنهم كلما حاولوا حرق قلوبنا، يزداد الشوق لفلسطين والخوف يتلاشى، هم لم يفهموا أن الموت أسهل من الحياة، وأن ألف عام لو مر، ألفُ عامٍ يا جدتي، ولو خسرنا مليون شهيد، فلسطين ستبقى عربية حرة وهم سيرحلون ونحن سنبقى.

صحيح أن مفتاح الدار صدأ لكننا لسنا بحاجة إليه، فباب دارنا سوف يعرفنا ما إن مر ريحنا بجانبه، سوف يألفنا، وحين أفتح الدار وأسكنها، لن أنسى وعدي بأن أتفقد أزهر جدي التي زرعها قبل النكبة حين كان طفلاً، وإن لم أجدها سأزرع بدلاً منها حديقة لا تخافي، وأظن أني سأعيد بناء الدار من جديد سوف أجعلها أكبر وسأبني صوراً صغيراً حولها وسأزرع شجرة عنبٍ على الباب أذكر كم كنت تحبينه، وسوف نكون سعداء ونقضي الليل في الخارج تحت سماء فلسطين، فكم أن وصال العاشق بعد الهجران جميل . مع كل هذا لن ننسى، ومع أننا عدنا لن أنسى ولن أدع حتى أحفادي ينسون النكبة يا جدتي، لن أدعهم ينسون أننا أول من سكن الخيمة وجعل للمخيم في المعاجم تعريفاً ومعنى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.