شعار قسم مدونات

إلى ولدي الذي لم يأتِ بعد

blogs - أب وابنه

اعلم يا ولدي أنّ الشّمعةَ الّتي درسَ عليها جدّي وأورثَها إلى أبي ومن أبي إليّ، سيكونُ ظلماً أن أورّثك إيّاها في حينِ أنّ زمانَكَ زاخرٌ بالمصابيح الكهربائيّة. واعلم أنّ سنّة الأشياءِ أوّلها الكفاءةُ وآخرُها العطب، فلا تَكُن تحتَها تحكمك، ولا تكن فوقها تُشقيك، خُذها وسيلةً توصلك، ولا تأخُذها غايةً؛ تضيّعك. واعلم يا ولدي أنَّ العلاقات عابرةٌ، فأولها تعبرُ جانبَكَ -لا لكَ ولا عليكْ-، وثانيها يعبرُ من فوقِك -عليكَ لا لكْ-، وثالِثُها يعبرُ من تحتِك -لكَ لا عليكْ-، وأمّا رابعها فيعبُرُ من خلالِك -إمّا لكَ وإمّا عليك.

 

راقب معادنَ النّاسِ يا ولدي ولا تراقب النّاسَ ذاتَهُم. واعلم أنّي لا أريدكَ أن تكونَ أفضلَ منّي ولا أريدُ العيشَ أفضلَ منك، فما دفَعَ الآباءُ أبنائَهُم بقولِهم: "أريدك أفضل منّي" إلّا نقلاً لحلمٍ عجزوا عن تحقيقهِ في شبابِهم فكلّفوهُ أبنائَهُم، وسيكونُ ظلماً أن أورّثكَ أحلاميَ الّتي لم أُحَقِقْها في حينِ لديكَ أحلامُك الّتي تسعى لتحقيقِها. واعلم يا ولدي حينما أقولُ: "اعتبرني صديقُكَ" أنّي كاذبٌ، فما أن تأخذَ راحتَكَ بالحديثِ عمّا يشغَلُكَ حتّى أبحثُ عن منفذٍ أمارسُ فيه دوري كأب، لذا فلنتفقُ على شيء، نحن لسنا أصدقاءً، بلْ تستطيع أن تعتبرَني عجوزاً يصطادُ السّمكَ في حينِ أنّكَ تتمشّى على الشّاطئِ بعدَ منتصفِ اللّيلِ إثرَ ضيقةٍ أصابتكَ فالتمستَ منهُ نصحًا.

واعلم يا ولدي أنّي حينما كنتُ بِـعمرك قلتُ إذا رزقتُ بطفلٍ سأهتمُ به أفضل من اهتمام أبي بي، واليومَ بعدَ تَجربتي أرى في والدي قدوتي التي لن أستطيعَ الوصولَ إليها. واعلم يا ولدي أنَّ كلٌّ يسيرُ لحاجةٍ فإن لم تكن مهمّةً لديك فهي مهمّةٌ لديه، فاحترم حاجاتِ النّاس مهما تكن. واعلم يا ولدي أنّ المرّة الأولى التي سأتجرّأُ بها وأمدّ يدي لأصفعك، لن تكونَ محضُ صدفةٍ أو تسرّعٍ، بل ستكونُ نتيجةَ صراعٍ بيني وبيني دامَ أياماً، وبعد أن استتفذتُ جميع الحلولِ الّتي دارتْ برأسِ رجلٍ شرقيٍّ -مثلي-، وقّعتُ على اتفاقيةِ صفعكَ مرّةً واحدةً مقابل صفع نفسي مئة مرّةٍ بعدَها.

اعلم يا ولدي أن ّسرّ البرّ أن أبرّك ثم أبرّك ثم أبرّك ثم تبرّني. وسرُّ العقوقِ أن أكونَ والدكَ فحسب لا والدُكَ وأبيك
اعلم يا ولدي أن ّسرّ البرّ أن أبرّك ثم أبرّك ثم أبرّك ثم تبرّني. وسرُّ العقوقِ أن أكونَ والدكَ فحسب لا والدُكَ وأبيك
 

واعلم يا ولدي أنّ حجمَكَ بمقدار حُلمك؛ ما زلتُ أذكرُ شغَفَ أحلامِكَ الطّفوليّة، فيومًا تريدُ أن تصير طبيبًا يقدّمُ للعليلِ اكسير الحياةِ على طبقٍ من الرّحمة، ويومًا طيّارًا يحلّقُ في السّماء بلا حدودٍ، أعلم أنّك في الأيّام المقبلة ستضحكُ كثيرًا على نفسك، فلقد كبرتَ وكبرَ عالمُك وعرفتَ أنَّ العالم أكبرُ بكثيرٍ من أن تكون حدودَهُ حديقةُ منزلِنا، ومهما يكُن إيّاكْ أن تجعلَ أحلامُكَ تصغُرُ يا ولدي.

واعلم يا ولدي، ستمرُّ عليكَ فترةٌ بمراهقتِكَ لن أفهمُكَ فيها ولن تفهمَني، ستقول عنّي في نفسِكَ ما هذا الأب المتخلّفُ الرّجعي!؟، وسأقولُ عنكَ جاهراً ما هذا الفتى المُهمل! كلّ ما أريده منكَ حينَها أن تقولَ لي: "لقد تغيّرَ الزّمنُ يا والدي، لِمَ تُربّيني على زمانك وزماني أحقُّ أن تُربّيني عليه". واعلم يا ولدي أنّ الرّبيعَ نعرفُهُ بالخَضار والعبادةُ نعرفُها بالتّقوى والإيمان والحياةُ نعرفُها بالمعنى وأنّ الأبوّةَ نعرفُها بنداءك "والدي" كلّما ضاقتْ بكَ الدّنيا فلا تحرمنيها.

واعلم يا ولدي أنّ سرّ الحياةِ هو الحركةُ والنّبض، وكلٌّ يسيرُ في حركةٍ دائمةٍ بينَ القبضِ والإفلات، وكذلكَ العلاقة الزّوجيّة، فيها الرّخاء وفيها الشدّة، فـما أن ترتخي حتّى تشتد وما أن تشتدُ حتّى ترتخي، فاعلم أنّي وأمُّكَ لسنا مثاليّين ولا ينبغي علينا ذلك، لذا سنختلفُ كثيراً ويمتلئُ الحبلُ فيما بينَنا عُقداً، فلربّما أشكوها إليكَ كيْ أستميلَ قلبك، وقد تشكوني إليكَ لذاتِ السّبب، إيّاكَ يا ولدي إيّاك، أن يقعَ في قلبِكَ من شكوانا شيئاً، بالنّهايةِ سنتصالحُ نحنُ وتنحلُّ العُقَد في حبلِ وصالنا، وتبقى في قلبكَ معقودةً.

واعلم يا ولدي أنّ ﷲ رَحِم من عَرِف قدر نفسه؛ أتذكر حينما كنتَ مراهقاً – وأكرهُ هذهِ التّسمية – وكنتَ ترى نفسكَ محورَ هذا الكونِ والجميع متآمرٌ عليك، أرغمتُكَ أنْ تقرأَ كتابَ "الكون_كارل ساغان" وكنتُ أناقشكَ فيهِ كلَّ ليلةٍ، لننتهي أنّنا كـبشرٍ وجِدْنا على كوكبٍ صغيرٍ خافتٍ لنظامٍ شمسيٍّ بسيطٍ في زاويةٍ مفقودةٍ على ذراعِ مجرّةٍ من ملايينِ المجرّاتِ في هذا الكون، أردتُكَ حينَها أن تعيَ قدر الأشياء قبل أن تجعلَ قدر نفسِكَ أعظمَ منها.

أُريد اليوم الردّ عليكَ بطريقتِكَ المتبجّحةِ الّتي عاملتَني بها في مراهقتك، حقًّا أردتُ الوقوفَ يومَها فوقَ سريرِكَ والحديثَ بصوتٍ مرتفعٍ أنّك حينما تشتمُ الكونَ لحقدِهِ عليكَ لم يخفتْ أو يزيد الضوءُ الصّادرُ عن نجمِ "بطن الحوتِ" في مجرَّةِ "المرآة المسلسلة"، وهذا الكونُ العظيمُ أكبرُ من أن يتآمرَ على مراهقٍ أكبرُ همومِهِ واجباتُهُ المدرسيّةُ، فقط. واعلم يا ولدي أن ّسرّ البرّ أن أبرّك ثم أبرّك ثم أبرّك ثم تبرّني. وسرُّ العقوقِ أن أكونَ والدكَ فحسب لا والدُكَ وأبيك، فالوالد من شارك في العمليّةِ الفسيولوجيّةِ، والأبُّ من رعى وربّى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.