شعار قسم مدونات

عذرا.. لن أهنئكم بقدوم شهر رمضان!

blogs رمضان

لا يوجد أي مستوى من الشك أو الريبة في الاعتقاد الكامل أن شهر رمضان هو شهر متميز به بركة وعبق روحاني واقتراب من الله وسعي إلى فعل الخير واستيعاب لفلسفة مخالفة في معنى الزهد وتفعيل إرادة الرفض. ولكن المراقب لحال الأمة العربية والإسلامية المعاصرة يلحظ تحولا نوعيا في معنى الاستعداد والحشد والتهيئة النفسية والروحانية بل والمجتمعية للشهر الكريم. ومن هنا قد يكون من المشروع أن نتسائل لماذا نحب رمضان؟ وما هي قيمة رمضان؟

دعنا ننغمس في تأملات رمضانية ونحن على بوابة الشهر الفضيل. بداية فإن من محاسن هذا الشهر أنه يدعو القادر والغني إلى الإحساس بالفقراء، يقينا أن هذا لا يتحقق لأن معدلات الاستهلاك الموثقة في العالم العربي تتضاعف في رمضان. لنترك معدلات الاستهلاك ومظاهرها ونتحرك إلى رحاب العمل والإنتاجية والإبداع والإخلاص والمساهمة في رفع مستوى المجتمع والأمة فكريا واقتصاديا وعلميا.

 

يدهشنا أيضا أن هذا الهدف يتداعى أمام حقيقة أن شهر رمضان هو شهر اللاعمل، وشهر عدم الإنتاج وشهر اللهم إني صائم وبالتالي لا أعمل ولا أنتج ولا أفكر وتجنبوا عصبيتي وثورتي لأتفه الأسباب. ولكننا في رمضان وفجأة نصلي بانتظام في المساجد ونقرأ الكثير من القرآن ونزيد من الصدقات وفِي نفس الوقت تفسر سلوك وعدوانيتك وقسوتك وعدم احترامك للقانون بقولك الشهير: أنا صائم. ولكن هل فكرنا في أن القيمة الحقيقية من شهر رمضان أن يتحول سلوكنا الإنساني والروحاني والاجتماعي في هذا الشهر الفضيل إلى سلوكا عاما ونمطا سائدا في كل شهور العام.

ممكن أن أتمنى لكم جميعا الصحة والسعادة وطول العمر ولكني لا أستوعب أبدا ما هي قيمة التهنئة بشهر رمضان ونحن نبدع في إفراغ رمضان من كل شيء

أحيانا أنبهر ممن يتوقف عن أفعال ما بحجة أننا في رمضان. إذا كنت تخجل من هذه التصرفات في رمضان، كيف تسمح لنفسك بفعلها بعد رمضان؟ هذا أعلى مستويات النفاق. شهر رمضان ومن وجهة نظري المتواضعة هو فرصة ونعمة من الله سبحانه وتعالى ليساعدك على أن تحول حياتك إلى رمضان مطول وممتد بشرط مصداقية القناعة. أما فكرة أن "أنا ماسك نفسي علشان رمضان وبعد كده طالع الساحل في العيد علشان توتو جايب لنا نبيذ تحفة من فرنسا". و"أنا أقلع الحجاب أول يوم العيد علشان حفلة الساحل الشمالي". فهذا يدخل في بند العبادة الموسمية اللطيفة المسطحة القشرية. اضحك على الجميع ولكنك لن تضحك على نفسك ولن تضحك على الله سبحانه وتعالى. هل نملك الإرادة لنقول أن شعار المرحلة القادمة هو شهر رمضان فقط ٣٦٥ يوما، وأن ننهي تماما المفهوم الساذج أن رمضان هو الامتناع عن الأكل وملذات أخرى لمدة عدة ساعات.

دعنا نتحول إلى قيم أكثر تعقيدا مثل الصدق وقول الحق، وهي قيم يرقى لها المسلم المخلص الصائم المقترب من ربه. دعنا مثلا نتأمل محمد رسول الله، سيد الخلق والموصوف بأنه على خلق عظيم حيث كان يردد دائما دعاء يقول فيه: "اللهم ارزقني لسانا صادقا". تخيلوا رسول الله يتوسل إلى الله سبحانه وتعالى لينعم عليه بصدق اللسان. أنا فقط أحاول أن أتخيل ماذا يحدث لو قمت بصيام كل رمضان لأعوام مطولة وقمت بأداء ثلاثين عمرة وسبعة عشر حجة وسبعين مائدة رحمن ودخلت الجنة. كيف تطالع وجه رسول الله وهو يستمع إليك تقول بلسان الصائم "ويتميّز الزعيم الأوحد برؤية ثاقبة وقدرات قيادية فارقة ومنهج اقتصادي غير مسبوق ومعدلات إنجاز مبهرة وحب للحرية والعدالة وانحياز للحق والعدل وكرامة الإنسان وتبنيه لطفرة سياسية علمية ثقافية بحثية، وقدرة ملفتة على الدراسة العميقة لقرارته. رجل أرسله لنا الله، ومقامه مقام الرسل، لكننا لا نستحقه لأننا شعب فقير كسول". هل يجوز وفقط على سبيل الاستفزاز الفكري والقيمي أن نتخيل هذا الموقف ونتخيل أيضا رد رسول الله عليه الصلاة والسلام وكيف سيكون.

ما بعد إمام وما قبل رامز وأمام يسرا وخلف دينا ومتجنبا انتصار

أن رمضان شهر الصدق، وبمنتهى الصدق لا أجد أي مبرر لأن أهني نفسي أو عائلتي أو أساتذتي أو زملائي بقدوم شهر رمضان. ممكن أن أتمنى لكم جميعا الصحة والسعادة وطول العمر ولكني لا أستوعب أبدا ما هي قيمة التهنئة بشهر رمضان ونحن نبدع في إفراغ رمضان من كل شيء. كل سنة وبصورة متسارعة، نحن نتدنى وننزلق ونبتعد. كل سنة نعترض ثم نتقوقع أمام السخافات الرامزية والتجاوزات الهيفائية والمسلسلات من أل أمام، ويسرا والفخراني والكاميرا الخفية والطبخ بدون تقلية.

 

ها نحن نبدأ اليوم الأول من رمضان ولكن المذهل والمؤلم أنه فقط وقبل رمضان بليلة قتل عشرات الفلسطينيين ومنهم النساء والأطفال فاكتفينا بمصمصة
ها نحن نبدأ اليوم الأول من رمضان ولكن المذهل والمؤلم أنه فقط وقبل رمضان بليلة قتل عشرات الفلسطينيين ومنهم النساء والأطفال فاكتفينا بمصمصة "الشفايف"
 

تخيلوا أننا وبكل إرادة جعلنا هؤلاء نجوم ومليونيرات رمضان، ومحاور جلسات لا تنتهي أمام شاشات تليفزيونية بغيضة تحول الإنسان إلى متلقي لكل هذه التجاوزات والسخافات التي تسمى برامج ومسلسلات الشهر الفضيل وهي كلها جرائم مع سبق الإصرار والترصد لقتل قيمة الشهر الفضيل وقيمه وإمكانية التعلم العميق منه ومن طقوسه وشعائره وفلسفة جماعيته وحساسيته نحو الفقير والمحتاج وضعيف الإرادة. بل إن أحد بطلات المسلسلات ترتكز حملتها الدعائية على شعار: "ما تيجي نرقص".

ها نحن نبدأ اليوم الأول من رمضان ولكن المذهل والمؤلم أنه فقط وقبل رمضان بليلة قتل عشرات الفلسطينيين ومنهم النساء والأطفال فاكتفينا بمصمصة "الشفايف". وقبل رمضان بليلتين، افتتحوا سفارة أمريكا في القدس، فتوجهت جموع الأمة إلى محمصة العروبة لشراء "" رمضان. وقبل رمضان "بكام ليلة" لم ترضى إسرائيل إلا بميدان التحرير لتحتفل من شرفة علوية بذكرى سحقها جيوش العرب وتشطب بالكامل الفصل الأخير من ثورة 25 يناير التي تبلورت أحداثها المقدسة في عمق نفس الميدان وفضائه الرحيب. ما بين المصمصة والمحمصة في الليالي الرمضانية الممتدة، أجد نفسي متفقا تماما مع هيفاء في ندائها العميق الكاشف: "ما تيجي نرقص".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.