شعار قسم مدونات

خدعونا فقالوا "أحلى أيام العمر في الجامعة"!

blogs - student

إن من أصعبَ المساحاتِ الخداعَ؛ فأوقاتُ العمرِ التي تضيعُ عامًا بعدَ عامٍ بين ذهابِ الجامعةِ والإيابِ منها ما هي إلا ذلك الشيء -السراب الكاذب-، وَهمٌ لازمٌ وليس ثمةَ بدٍّ مِنه، مساحةٌ مِن الوقتِ تكمن في الانشغالِ به لا الاشتغال فيه، أيامُنا لبثتْ فيها ليست فقط بينها كغيرِها مِن الشواغل، يمرُّ يومُنا منها علينا في صورةٍ مشابهةٍ تمامًا لسابقتِها لا تختلفُ عنها البتةَ، فجميعُها مكررةً.

 

أيامنا بينَ الجامعة

كأيامِ فتىً مسكينٍ، هاجرَ بنفسه عابرًا عن كثيرٍ مما يكتنفه من الشواغل؛ فقط ليعيشَ في بيتٍ خربٍ،، سنواتٌ عجافٌ على ترميمه، أن دعوه جميعُ مَن حوله كعبةَ نجاةٍ ما كان لكثيرين سبقوه ونجوا جميعا أن يتخذونه السبيلَ لنجاتِهم. فصدًَق تصوراتِ الكثيرين مِمَن حوله وآمن بِأنها حقًا كعبةً في زمنِها ومكانِها، جدرانٌ مغلقٌ آخره سددٌّ ليس له مِن دونِ الله كاشفة، مثلُ خداعِه وكذبِه الذي استولى على العقولِ كمثلِ المرضِ الذي ينهشُ في الجلدِ ولا يذر للعظام قوامها. هُم ما أرادوا أن يخدعونه ولكنهم كانوا سببًا في أن يباتَ لزامًا عليه أن يخدعَ نفسَه بذاتِ نفسه بعد أن رآه لا يصلح لا له ولا لغيره في حين يراه كثيرون عكسَ ذلك، وبدت شكوكُه في زمكانيته، ولكن لبثته تصوراتهم واستغشته. غريبٌ مبهمٌ أمرُها وأمرُ جميعِ مَن هُم حولَها، إن صرخْ المسكين فقد أشرك بتصوراتِهم البعيدةِ عنها وصار نشازًا في أذهانهم، صار إبراهيمًا عِندَ قومِه. لا بأسَ سأستغفرُ لكم ربي.

 

شديدٌ من الأسف

لا بأس بشديد من الأسف أن نذكرَ كاملَ علمِنا اللامُتناهي والذي بدى لنا منذ أول يومٍ لنا فيها. فمثلًا؛ معروفٌ أن مقولة (تقفيل الدماغ) غالبا ما تأتي من تراكم المعلومات التي تبدو مرتبطةً ببعضِها، وأُخذَت مِن لدنِ ثلاث ساعات وأُستفرِغَت بكاملها فيهم لحكم من الأحكام؛ ولكنني رغم ذلك كم أذكرُ مِن المحاضراتِ التي كنت أجلس فيها متكئًا متكومًا في يداي في صورةٍ كصورةِ الفنانة (عبلة كامل) في فيلمِ (اللمبي)، ولكنها تلك المعلومات لمْ تكنْ تنطبق عليها تلك المواصفات فكثيرًا ما كانت ألغازًا متفرقةً، الوخيدُ الذي لا يرى بأسَّها كان الأستاذ، تخضعُ وفقًا لمعادلةٍ يمكنُ أن نطلقَ عليها (معادلة الحشو)، ليستْ على أستاذ الجامعة المصرية بعسيرة، فتطبيقُها لِزامٌ، ولا يشكلُّ له باختلافِ الأزمانِ ولا المقرراتِ بالتبعيةِ مشكلةً؛ وهي: أن الكمَ من المقرر مقسوما على فترة الدراسة كان لابد أن يعطيَّ الثلاثَ ساعات بأكملهم. وإن كان هذا ليس الأصلَ في ذاك وقد أوضحت ذلك في مقال بعنوان (الجامعةُ حلمٌ صعبٌ للفقراء!) وآخر بعنوان (حوارٌ مع صديقي.. حول أثر الاعتمادية في الجامعة)، ولا ذاك الذي تأخذ على يدهِ ليفريَّ بحنكتهِ الذي صعُبا، وهذا أيضًا أوضحته في مقال بعنوان (صديقي المعلم.. تعلم وليس جيدًا).

 

مفارقات الطلاب
أنا أقدسُ العلمَ والتعليم، لكنني ضدُ النظامِ الأكاديمي، فأعلم أنه لا علم دون معلم، والمعلم كلُ ما يلهم الإنسانَ إن كان شخصًا، آلة،ً حيوانًا كان أو معنىً

كم مِن المحاضرات،ِ ومجالسَ العلمِ وحلقاتهِ، والأنشطة والخبرات الحياتية، ومجالسَ الأصدقاءِ وخروجاتهم وأنسهم قد أضاعتْ علينا الجامعةُ بعدَ أن كنا نبذلُ بينهم ما نبذلُ من الطاقةِ والعنفوان؛ فينقضي العام ونتفاجَأُ أنَّا لم نأنسُ بشيءٍ منه! كم الغفلة بل الاستغفال الذي كنت! لم أستشعرْ كل هذا خلال هذا العام البتةَ إلَّا قدرًا عندما سألني صديقي أمس عن موعدِ مجلسٍ علميٍ ما يقام في الجامع الأزهر، فقلت له: لا أدري، فقدْ صرنَا -نحن- البعيدين. عجزتُ أن أذكرَ كم حملتْ كلمة (البعيدين) بين طياتها في نفسي إلا كثيرًا مِن الغصةِ في صدري.

 

بعد أن كنت يوما أخبرُ جميعَ مَن حولي؛ ألا يسمحوا للجامعةِ تجعلهم مقيدين مكتوفي الأيدي معصوبي الأعين، ألا يتركوا الجامعةَ والتعليمَ النظامي يطغى على أشخاصِهم فيحضونهم دونًا عن ميولهم ويحضونهم على سعيٍ دونَ آخر، ألا يتركوا قلوبهم في إطارٍ واحدٍ يستنزفون ما فيها من طاقةِ؛ موهومين أن هذا هو السبيلُ الأوحدُ الوحيد. على الرغم من أنني لم أنوِ مرةً أن أكونَ مِن أصحابِ الامتيازاتِ والعلامات، فأبذلُ كلَّ الطرقِ التي ما إن خلا منهجي بواحدة منهم فقد ضاعت الامتيازات، فمثلا؛ لا استثني حلقات الاستجداء التي كانت والتي أعرب عنها أحدهم بأنها "الحنكة"، فلذلك كنت لا أضعُ لذلك موطَأ بالٍ. فأعتبرُ في هذا المكانِ بعينه أن الطالبَ الذي بات كلُ همِّه العلاماتِ طالبًا فاشلًا، وسيصبح معيدًا فاشلًا يومًا ما كأمثال كثيرين تقاعسوا ولم يستطعوا الوقوفَ أمام المشكلاتِ وإيجادَ الحلول، لم يكن طالبًا يبحث عن العلم فالتجارب والعمل من ثم فالإبداع، بل أهدر إمكانياته وعنفوان طاقته بشكلٍ ذي عوج. هذا كله إلا أنني لم أتمكن أيضا أن أحتفظ بجزء من طاقتي في شيءٍ آخر خلال عاميَّ الذي اُنتشِل.

 

لا تجعلوا الجامعةَ تقتلكم، افعلوا ما تحبون واجعلوا لمناحيَ الحياةِ حظًا وافرًا داخلَ نفوسِكم.
 

كنْ "فريد آلن" جامعتك وتخصصك

  

فريد آلن (مواقع التواصل)
فريد آلن (مواقع التواصل)

  

إن شرَّ البليةِ صدقًا ما يضحك إن لم يبكِ؛ لذا اضحى السؤالُ (لمَ تذهب أنت إلى الجامعة إذن؟) سؤالَ الكثيرين، وإجابتي هي؛ أن هذا شيءٌ تصوريٌ يفوقُ الخيالَ، فمثلًا؛ ماذا لو قلتُ لك أن الأمرَ صعبٌ إلى حدٍ أنه يصعب على رسامٍ بارعٍ تجسيدَ صورةِ أحدِنا وهو يهمُّ بالخروجِ من تلك العادات التي كُرِهنا عليها في لوحةٍ. الأمرُ عادةً صعبٌ أن يبدأ منا حيال عدم توافر الإمكانيات والبدائل، فأقول أنه ليس من المعقول البتة أن أظلَ آكلُ الطبقَ كلَّه في صغري، ولا أذرُ مِن كوبَِ اللبنِ، وأشتهي السبانخَ والفاصوليَا والخُبيزةَ إلى أن أكبرَ وفي النهايةِ لا أذهبُ للجامعة. هذا وفق ما كانت تخبرني به أمي عندما اتبعت لفظَ (كُلْ) بـ (يا جميل).

 

يقولُ "فريد آلن": "لقد تعلمتُ القانونَ لدرجةِ أنني يومَ أن تخرجت رفعتُ قضيةّ على الكليةِ وفزتُ بها واسترددتُ مصروفاتَ الدراسةِ التي دفعتُها"، لعل (فريد آلن) أراد أن يبث قوله تعالى: "لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى"، فكما لو كمُنَ دورُ الجامعةِ في إعطاءِ (فريد) إذن دخول قاعة المحكمة أو لباس الروب الأسود، لكنه لم يستطع أن يعطيه الورقة، وإلا ما كان ليتغلب على ثغراتِهم التي لم يعتبرون مِن خلالِ تلك الورقة.

 

أنا أقدسُ العلمَ والتعليم

لكنني ضدُ النظامِ الأكاديمي، فأعلم أنه لا علم دون معلم، والمعلم كلُ ما يلهم الإنسانَ إن كان شخصًا، آلة،ً حيوانًا كان أو معنىً؛ فتعلمت كثيرا من أمي والكثيرَ من "اليوتيوب"، وتعلَّم قابيلٌ من غرابٍ، وتعلَّم نيوتنٌ مِن تفاحة؛ فلا يقتصر لفظ ومعنى معلم على كلِ مَن حملَ حقيبةً مليئةً بالأوراقِ غالبُ أمرِه يطلب قوتَ يومه، وتلك منقبة.

 

أشكرُ كل من علمني دونَ جزاءٍ.. أشكرُ معلمي في المدرسةِ وأستاذي في الجامعةِ، أقولُ حملَّتي هذه لا أعني بها أنني لم استفد شيئًا منكم، أو أنني أنتقص من شأنكم وشأن سلعتكم، أنا دون ذلك بكثير وفضلُّكم عليَّ كثير، وأحمل لكم من الحبِّ الكثيرَ الكثير. ولكن يا صديقي لتبقى الجامعةَ امرأةً عاقرةً عن الإنجابِ في دولةٍ ناميةٍ ترى الاستنساخَ سبيلًا والنظامية قداسة، لا تعرفُ أساليبَ التعليمِ واستخراجِ مكامنَ الإبداعِ بعد، فأمثال ابن حيان وابن النفيس لم تنجبهم جامعات، لتؤطر إبداعاتهم، وتبقى أيضًا وهمًا وغشًّا وسرابًا وكذبًا، تبقى كأضغاثِ أحلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.