شعار قسم مدونات

طفولة.. صراع مع مرض السرطان

blogs سرطان

تحمل كلمة الطفولة معاني كثيرة في ثناياها؛ يخطر في بالنا البراءة والألعاب والدمىٰ والاهتمام واللامبالاة والاستمتاع باللحظة. فالأطفال لا يفكّرون في متطلبات الحياة وهمومها المرهقة، لا يُبالون لما خلّفه الماضي أو لِما يحمل المستقبل، فقط يستمتعون بحاضرهم، ينامون وهمّهم الوحيد ملاقاة ألعابهم في الْيَوْمَ التالي. يا تُرى هل يمكننا تعميم هذه الصورة على كل أطفال العالم؟ هل كلهم يحظون بكل معاني الطفولة؟ أم هناك فقرٌ وحربٌ وسرطانٌ يُهدِّدون كمالية هذه الصورة؟ 

لقد صار داء السرطان مرض العصر الذي يتطفّل على الأجسام ويَقْتُل الناس علناً، لا يُفَرِّق بين أبيض أو أسود ولا امرأة أو رجل ولا عجوز أو طِفل. إنّه مرض عنيد يَقْهر ولا يُقهر، أناني يريد العيش مقابل موتٍ مؤكدٍ، مُصرّ لا يعرف التراجع، مُخادع خبيث يُجيد الاختباء والاستقرار في أماكن لا يصيبها قصف الأدوية الكيماوية، ماكر احتار في القضاء عليه أذكى العلماء والباحثين.

ساعد تطور الأجهزة التشخيصية على تعرية هذا المرض الخبيث واكتشاف آلياته إلى حد ما، وبذلك تَكَثَّفَ البحث العلمي لمعرفة خباياه ونقاط ضعفه لإنقاذ البشر من شره. تعددت وسائل العلاج ما بين العلاج الكيماوي والعلاج الإشعاعي والعلاجي البيولوجي لكن المرض لا يموت. تستهدف كل أنواع العلاج الخلايا السرطانية بالدرجة الأولى ولكن المؤسف أنها تُدمِّر خلايا الجسم السليمة أيضا، ممّا يتسبب فيما ما نراه من فقدان الشعر والتعب الشديد بعد العلاج والغثيان والاستفراغ وغيرها من الأعراض الخاصة بنوعية السرطان والعلاج. 

لا تستطيع سينثيا قضاء يومها دون خوذة لحماية الجزء المتعري من دماغها بعد عملية إزالة عظم الجمجمة الذي انتشر فيه السرطان

أليسون، طفلة تبلغ من العمر ثلاث سنوات، جميلة وحركيّة تُحب عالم ديزني-Disney world- ولديها دمىٰ من كلّ الشخصيات التي تمثله. كانت تعيش كل معاني طفولتها مع أسرتها الصغيرة إلى أن سقطت وهي تجري كأقرانها في الحديقة. أخذها والديها إلى الطوارئ للتأكد من عدم وجود أي كسر ولكن الأشعة أظهرت أشياء أخرى لم تكن بالحسبان، أشياء أسوأ من الكسر. دخلت أليسون المستشفى وتمّ تشخيصها بسرطان في خلايا النسيج العصبي-Neuroblastoma- في مرحلته الرابعة. كان المرض الخبيث قد انتشر من الغدد الكظرية إلى الغدد الليمفاوية والرئتين والنخاع العظمي. تحولت حياة هذه الطفلة من عالم وردي تملأه دُمىٰ ديزني إلى عالم مليء بالأطباء والأشعة وغرز الإبر والتعب والتمدد المُطوّل على سرير بارد.

سينثيا، طفلة في الثامنة من عمرها، قابلتها في حصّتها السابعة من أصل عشرين حصة من العلاج الكيماوي. كانت قد تعودت على أجواء العلاج المُملّة وأعراضه الجانبية القاهرة. تُعاني سينثيا من سرطان في العظام -Ewing Sarcoma- الذي يعتقد الأطباء أنه نشأ في ذراعها اليُمنى وانتشر إلى عظم جمجمتها بعد التشخيص بأشهر. خضعت سينثيا إلى العلاج الإشعاعي الموضعي على ذراعها قبل العلاج الكيماوي، وتحمّلت الحروق المترتبة عن الأشعة لتحرير جسمها البريء من استعمار السرطان، مثل المحارب الذي يُضمّد جروحه بسرعة ليُتابع القتال في سبيل تحرير الوطن.

 

بالإضافة إلى تساقط كل شعر رأسها، لا تستطيع سينثيا قضاء يومها دون خوذة لحماية الجزء المتعري من دماغها بعد عملية إزالة عظم الجمجمة الذي انتشر فيه السرطان. لا أعرف الكثير عن حياة سينثيا قبل المرض، ولكنّني تقربت منها خلال الأسبوع الذي قضته معنا في المستشفى وعرفت أنها تُحب القِراءة والعزف على البيانو ولعبة الأونو. كنت أحرص على لعب الأونو معها كل يوم وكانت تفوز عليّ في كل مرة نلعب فيها معاً. كنت فاشلة في تلك اللعبة ولكنّني كنت أنجح في رسم ابتسامة على وجهها الشاحب المرهق من العلاج. 

خضع اِلايْجا إلى علاج إشعاعي كلي لجسمه قبل عملية الزرع، وذلك بغرض إحباط جهازه المناعي لتخفيض فرص حدوث رفض للخلايا الجذعية المزروعة
خضع اِلايْجا إلى علاج إشعاعي كلي لجسمه قبل عملية الزرع، وذلك بغرض إحباط جهازه المناعي لتخفيض فرص حدوث رفض للخلايا الجذعية المزروعة
 

اِلايْجا، طفل في الرابعة عشر من عمره، تمّ تشخيصه بلوكيميا الدم -ALL- قبل ثلاث سنوات وعاش معانة الفحوصات والعلاج لمدة سنة، خضع فيها لمراحل العلاج الكيماوي كلها وأكملها بنجاح واعتقد الأطباء أنه تخلّص من المرض. عاد اِلايْجا إلى حياته الطبيعية وإلى مدرسته وأصدقاءه وغرفته وألعابه. بعد سنتين من الحياة دون المرض، وفِي يوم مشؤوم، ارتفعت حرارته وشعر بتعبٍ شديدٍ. بعد تفقد الوضع، اتضح أن السرطان عاد ليغزو دمه من جديد.

 

قابلت اِلايْجا أول مرة في قسم العلاج الإشعاعي؛ طبعا رجوع المرض لا يدلّ إلاّ على عدائيته ومقاومته الشرسة للعلاج، ممّا يُحتِّم زراعة نخاع عظمي. خضع اِلايْجا إلى علاج إشعاعي كلي لجسمه قبل عملية الزرع، وذلك بغرض إحباط جهازه المناعي لتخفيض فرص حدوث رفض للخلايا الجذعية المزروعة. ودّعته وهو يتابع مسيرته مع العلاج على أمل التخلّص من المرض بشكل نهائي.

كانت هذه نبذة عن ثلاث حالات واقعية لأطفال يعيشون مراحل مختلفة من طيف السرطان: مرحلة التشخيص وما في قلب العلاج ورجوع المرض بعد انتهاء العلاج. لم أتعمق كثيراً في المعرفة عن نفسيات الأطفال خلال المرض، وتجنبت الغوص في بحر معاناة أهاليهم أيضا.. تعمّدت ذلك كي لا أدخل في صراع مع نفسي يمكن أن يعيق ممارستي لمهنتي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.