شعار قسم مدونات

عذاب الحب ليس جميلاً أبداً

blogs الحب و الانجذاب

في مرحلة ما من مراحلنا العمرية، ولعلها مرحلة المراهقة، يصادف الإنسان حباً عرضياً تغلب عليه العذرية والنقاء، وينتهي كما بدأ؛ عرضياً، ولا يحدث أن نشعر كثيراً بتبعات الفراق، بيد أن الأمر مختلفٌ تماماً عندما تُسحَبُ جُلُّ حواسنا ومشاعرنا بعد نضوجها إلى مستنقع الحب؛ حيث تنقلب حياة المرء رأساً على عقب، وتكون تبعات الفراق وعدم بلوغ المبتغى الأسمى من المحبوب؛ وهو الوصال، خطيرةً جداً، بل وتصل إلى الهلاك أحياناً.

 

قال الإمام العسكري في الفروق اللغوية مشيراً إلى العشق -وهو من درجات الحب العليا- أنه "الشَّهْوَة الَّتِي إِذا أفرطت وَامْتنع نيل مَا يتَعَلَّق بهَا قتلت صَاحبهَا، وَلَا يقتل من الشَّهَوَاتِ غَيرُهَا؛ أَلا ترى أَن أحداً لم يمت من شَهْوَة الْخمر وَالطَّعَام وَالطّيب وَلَا من محبَّة دَاره أَو مَاله وَمَات خلق كثير من شَهْوَة الْخلْوَة مَعَ المعشوق والنيل مِنْهُ"، ويشد الأديب الجاحظ عضد الأخير؛ إذ يقول عن العشق أنه "دَاءٌ يُصِيبُ الرُّوحْ"، ولهذا الداء مراحل لم تكد تختلف على مر العصور؛ تبدأ باستحسان الشخص، ثم التقرب منه، ثم المودة، وتتأجج تلك المودة لتصبح محبة، ثم حب، ثم عشق، ثم تتيم (وهو حالةٌ يصبح بها المعشوق مالكاً لعاشقه لا يوجد في قلبه سواه)، ثم يؤول الأخير إلى وله (ويعني الخروج عن حدودِ الطبيعي، وهذيان الولهان من شدة الحب والشوق)، وكم سمعنا وقرأنا عن سكارى الحب ومغدوري العشق والوله، ولنا من قصصهم نصائح!

 

صد تلك اللحظة التي يخفق فيها القلب بشدة؛ تتيماً بشخصٍ ما، هو ضربٌ من ضروب المستحيل؛ فتلك فطرةٌ وفطرةٌ جميلة ما إن اتصفت بالعذرية والصدق والنقاء

أشهر من كتب وما كُتِب عن العشق وضحاياه هو الأديب القاري (توفي في القرن السادس للهجرة) وكتابه "مصارع العشاق" والذي، لسوء حظ العشاق ربما، جمع فيه من القصص والروايات والقصائد التي تتناول مواضيعهم وعللهم الكثير، واستطرد هنا بقصتين وقصيدة، يدورون جميعاً في فلك حديثنا: روي أن هناك جاريةً ظريفةً كانت فالمدينة، هويت فتىً من قريش، فكانت لا تفارقه ولا يفارقها، فلمَّا مَلَّها الفتى وهجرها في حين أنها تزايدت في محبته حتى حال إلى وله، تفاقم بها الأمر وما لبثت أن هامت على وجهها ومزقت ثيابها، وجعلت تضرب من تلقاه في طريقها، وبقيت على ضرب الجنون هذا دون جدوىً من علاجٍ ولا توسل.

 

وروي أيضاً أن فتىً قد أبصر جاريةً متعبدةً ورعة، فأُعجب بها، ولكنه كتم حبه خوفاً من رفضها له، وما فتئ أن ازداد -حبه- حتى وصل إلى منتهى العشق، ونحف جسمه وهزل من كثرة الهم وقلة التزود، ويومَ أن أفصح عن سره وجال أقاصي المدينة إلى أن وصل إلى معشوقته التي صدته – كما توقع منذ البداية – مات على هذه الحال. ولا خاتمةً من "مصارع العشاق" أعذب من أبيات علي بن الجهم الذي قال:

نُوَبُ الزّمانِ كَثيرَةٌ، وأشَدُّها.. شَملٌ تَحَكّمَ فيهِ يوْمُ فِرَاقِ
يا قلبِ! لِمَ عرّضْتَ نفسَكَ للهوَى؟.. أوَما رَأيْتَ مصَارِعَ العُشَّاقِ؟

 

ختاماً، من الأمور التي لا جدال عليها في خضم حديثنا أن صد تلك اللحظة التي يخفق فيها القلب بشدة؛ تتيماً بشخصٍ ما، هو ضربٌ من ضروب المستحيل؛ فتلك فطرةٌ وفطرةٌ جميلة ما إن اتصفت بالعذرية والصدق والنقاء، نعم يمكن أن يكبت الشخص مشاعره ظاهرياً؛ فتلك أفعالٌ لك القدرة على التحكم بها كاملة في الوضع الطبيعي، أما الأفعال الداخلية فتلك ما لا يقدر الإنسان على التحكم بها؛ روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يخص العدل بين نسائه رضوان الله عليهن جميعاً أنه قال "اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك".تلك أمورٌ لا ملام فيها، لكنَّ ذلك لا يمنع أن تضفي لمسة من التعقل والتدبر قبل أن تتفاقم النظرة إلى أبعد ذلك؛ فالحياة واحدةٌ ولا مجال دائماً للتجارب؛ خاصةً عندما تكون تلك التجربة تمس شخصاً آخر، فلنكن أكثر حكمة وقدرةً على كبح الجماح والشهوات؛ لكي لا نندم لاحقاً ندماً طويلاً على ما لا يمكن إصلاحه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.