شعار قسم مدونات

الحلم والأناة.. أخلاق غائبة عن مجتمعاتنا المسلمة (2)

blogs حوار

إن صفة الحلم من الصفات التي من يتحلى بها يكون قد اكتسب سمو الأخلاق، والتي تعمل على إنقاذه في كثير من الزلات، وإن كل إنسان فينا يحتاج إلى هذه الصفة لأن من طبيعة الإنسان اجتماعيا في علاقاته فلا يمكن أن يعتزل الناس كافة، ويعيش في وِحدَة مطلَقة ونحن في أمس الحاجة لها الآن في هذا الوقت العصيب لكثرة ضغوطات الحياة وقِلَّة احتمال كثير من الناس لِأَتْفَه الأسباب. لقد كان لي تدوينة سابقة بعنوان: (الحلم والأناة.. أخلاق غائبة عن مجتمعاتنا المسلمة). وأستطيع أن أقول أن ما سوف أذكره الآن ما هو إلا تكملة لما بدأناه، فأبدأ بعون الله:

إن أسباب الحِلْم الباعثة على ضبط النَّفس، عشرة:

1- الرَّحمة للجُّهال: وما فيه من تعوُّد النفس على المُسامحة والغفران والرحمة. قال أبو الدَّرداء رضي الله عنه لرجل أسْمعَهُ كلاماً : يا هذا، لا تُغْرِقَنَّ في سبِّنا، ودَعْ للصُّلحِ موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا، بأكثر من أن نطيعَ الله فيه. وشتم رجل الشعبيِّ، فقال: إن كنتُ كما قلْتَ فغفر الله لي، وإن لم أكن كما قلْتَ فغفر الله لك.

2- القدرة على الانتصار: وذلك من سعة صدر المؤمن، وحسن ثقته بالله وبنفسه وتوكله على الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قدرت على عدوِّك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه). وكما قال عليه أفضل الصلاة السلام: (ليس الشديد بالصُّرعة إنَّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) رواه البخاري ومسلم. وشتم رجل عمر بن ذَرٍّ فقال له: إنِّي أَمَتُّ مُشاتَمةِ الرِّجال صغيراً فلن أُحْييها كبيراً، وإنِّي لا أُكافِيء من عصى الله فِيَّ بأكثر من أن أَطيعَ الله فيه.

3- التَّرفُّع عن السِّباب: وذلك من شرف النفس المؤمنة، وعلوِّ هِمَّتها، وإبعادها عن الخُلُق السَّيِّء. كما قالت الحكماء: شرف النفس أن تحمل المكاره، كما تحمل المكارم. وقال الشاعر: لا يبلغُ المجدَ أقوامٌ وإن كَرُموا حتى يَذِلوا وإن عزُّوا لأقوامِ ويُشْتَموا فترى الألوان مُسفِرةً لا صَفْحَ ذُلٍّ ولكن صفحَ أحلامِ أي ترى وجوههم ضاحكة مستبشرة، وذلك الإسْفار لحِلمِهم وعفوهم، لا لحقارة أنفسهم ولا لدناءة طبائعهم.

من الغضب المحمود أن يسمع الشخص ما يؤذيه وما يغضبه ومع ذلك يُكْبِت غضبه في نفسه، أما إذا كان هناك ما يُغضب وهو في ذلك مستقِر النفس فهذا يكون من ذُلِّ النفس وقلَّة حَمِيَّتِهِ على نفسه

4- الاستهانة بالمسيء: الاستهانة بالمتَعدِّي والتَّرفُّع عن إجابته والإعراض عنه، يُكْسِبُك الرَّاحة ويُكسِبُه التَّعاسة. أكثَرَ رجل من سبِّ الأحنف وهو لا يجيبه، فقال : والله ما منعه من جوابي إلاَّ هواني عليه. قال الشاعر: إذا نَطَقَ السَّفيه فلا تُجِبْهُ فخيرٌ من إجابته السَّكوتُ سَكَتُّ عن السَّفيه فظنَّ أني عَييتُ عن الجواب وما عَييتُ.

5- الاستحياء من جزاء الجواب: وهذا يكون من صيانة النفس من الأخطاء والرَّذائل ومن كمال الإيمان مما يجنِّبها أيضاً من التحلي بالأخلاق الذميمة. شتم رجل الأحنف بن قيس، وجعل يتبعه حتى بلغ حَيَّهُ، فقال له الأحنف: يا هذا… إن كان بَقِيَ في نفسِكَ شيءٌ فَهاتَهُ، وانصرف، لا يسمَعك بعض سفهائنا، فتلقى ما تكره. وقال بعض الحكماء: احتِمال السَّفيه خيرٌ من التَّحلِّي بصورته، والإِغْضاء عن الجاهل خيرٌ من مُشاكلتِه.

6- التَّفضُّل على السَّاب: وهذا يكون من كرم الأخلاق ومن حسن ضبط النفس ويفتح مجال للتآلف والتآخي بين المسلمين. قيل للإسكندر: إن فلاناً وفلاناً يُنقِصانِك وَيَثْلِبانك، فلو عاقبتهما، فقال: هما بعد العقوبة أعذرُ في تَنَقُّصي وثَلْبي. وقد قال الأحنف بن قيس: ما عاداني أحدٌ قطُّ، إلاَّ أخذتُ له قَدَره، وإن كان دوني رفَعْتُ قَدْري عنه، وإن كان نظيري تفضَّلتُ عليه.

7- إستكفاف السَّاب، وقطع السِّباب: وهذا يكون من الصَّبر وحُسن التَّدبُّر في سلوكه مع نفسه ومع الآخرين. حُكي أن رجلاً قال لضرار بن القعقاع: والله لو قلتَ واحدة لَسمعْتَ عشراً، فقال له ضرار: والله لو قلت عشراً لم تسمع واحدة. وقد قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لعامر بن مُرَّة الزُّهري: مَن أحمقُ الناس؟ قال: من ظنَّ أنه أعقل الناس، قال: صَدْقت، فمن أعقلُ الناس؟ قال: مَن لم يتجاوز الصَّمت في عقوبة الجُهَّال. وقال الشعبيِّ: ما أدْركتُ أُمِّي فأبِرَّها، ولكن لا أسبُّ أحداً فيسبَّها.

8- الخوف من العقوبة على الجواب: وهذا لا يكون إلاَّ في النفس الضعيفة التي تهاب جواب من اعتدى عليها.

9- الرِّعاية ليدٍ سالفة، وحرمة لازمة: وهذا يكون من الوفاء والإخلاص إلى من أحسن إليه وحسن العهد له.

10- المكر، وتوقُّع الفرص الخفية: وهذا يكون من الذَّكاء ورجاحة العقل ومن حسن التَّدبُّر. قال بعض الأدباء: غضبُ الجاهل في قوله، وغضبُ العاقِل في فعلِه. وقال بعض الحكماء: إذا سكتَّ عن الجاهل فقد أوسعتهُ جواباً وأوجعتَه عقاباً.

شرط الحِلم:

وهنا أقول بأنه ليس من شرط الحِلم أن يفقد الرجل قوة الغضب، وإنَّما شرط الحِلم أن لا يطغى الغضب ويصبح مالِكاً لصاحبه حتى يدفع الرَّجل إلى الانتقام، أو يمنعه من الصَّفْح حيث يكون الصَّفْح أولى به. كما قال الأحنف بن قيس: رُبَّ غيظٍ تجرَّعتُهُ مخافة ما هو شرٌّ منه. وكما قال بعض الحكماء: من كَثُرَ شَطَطُه كَثُرَ غَلَطُه.

من الغضب المحمود:

هو أن يسمع الشخص ما يؤذيه وما يغضبه ومع ذلك يُكْبِت غضبه في نفسه ويحلم عن أخيه المسلم، أما إذا كان هناك ما يُغضب وهو في ذلك مستقِر النفس فهذا يكون من ذُلِّ النفس وقلَّة حَمِيَّتِهِ على نفسه وعرضه ودينه. لأننا ذكرنا أن الحِلْم هو ضبط النفس عند هيجان الغضب. كما قالت الحكماء: ثلاثة لا يُعرفون إلاَّ في ثلاثة مواطن: لا يُعَرف الجواد إلاَّ في العُسْرَة، والشُّجاع إلاَّ في الحرب، والحليم إلاَّ في الغضب. وكما قال الشاعر: ليست الأحلام في حال الرِّضا إنَّما الأحلام في حال الغَضَبْ.

للحِلْم فوائد، ومنها السلامة من تشوش القلب ومرض البدن، وسائر المشكلات الناجمة عن الغضب والفوز برضا الله
للحِلْم فوائد، ومنها السلامة من تشوش القلب ومرض البدن، وسائر المشكلات الناجمة عن الغضب والفوز برضا الله

نصرة الله لعباده المخْلِصين:

إن الله وملائكته ينصرون من كظم غيظه وعفا عن غيره، في الدنيا بإرسال ملائكته ليذُبُّوا عنه من يتعرض له من سفيه أو جاهل، وفي الآخرة بالثواب الوفير وجنة عرضها السماوات والأرض. والشاهد على نصرة الملائكة للحليم على غيره هو أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً جالساً مع أصحابه، فسبَّ رجل أبا بكر رضي الله عنه فآذاه فصمتَ عنه أبو بكر. فآذاه ثانية فصمتَ عنه أبو بكر، فآذاه ثالثة فانتصر لنفسه أبو بكر، فقام الرسول صلى الله عليه وسلم من المجلس فخرج أبو بكر وقال له: يا رسول الله، أَوَجَدْتَ عَلي (أَغَضِبت منِّي) يا رسول الله؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر، نزل مَلَكٌ من السماء يكذِّبه بما قال ويردَّ عنك، فلما انتصرت لنفسك، ذهب المَلَك وقعد الشيطان وأنا لا أقعد في مجلس يجلس فيه الشيطان). وعن الأحنف بن قيس أن رجلاً سفيهاً شتمه شتماً قبيحاً فحَلُمَ عنه، فقيل له في ذلك فقال: دعوه فإني قد قتلته بالحِلْمِ عنه، وسيقتل نفسه بجرأته، فلما كان بعد أيام جاء ذلك السَّفيه وشتم زياداً وهو أمير البصرة وظنَّ أنه كالأحنف، فأمر به فقطع لسانه ويده.

قد يصادف الإنسان في حياته حدثاً يغير حياته بالكُلِّيَّة، وبهذا يكون قد اكتسب هذا الإنسان من هذا الحدث مما يجعله حليماً صبوراً راجياً رضاء الله عز وجل خاشِياً من عذابه. قيل للأحنف بن قيس ممن تعلمت الحِلْم؟ قال: من قيس بن عاصم المِنْقري، رأيته قاعداً بفناء داره، مُحتبِياً بحمائل -وهي العلاقة التي يحمل بها سيفه- سيفه يحدِّث قومه، حتى أُتِيَ برجل مكتوف ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابن اخيك قتل ابنك، فواللهِ ما حلَّ حُبوتَهُ -ما يشتمل من ثوب ونحوه- ولا قطع كلامه. ثم التفتَ إلى ابن أخيه وقال له: يا ابن أخي أَثِمتَ بربِّك ورميتَ نفسك بِسهمِك، وقتلت ابن عمِّك، ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فَوارِ أخاك، وحَلَّ كِتافِ ابن عمِّك، وسُقْ إلى أمِّهِ مائة ناقة ديَّةِ ابنها فإنها غريبة.

فوائد الحِلْم:

وفي نهاية هذا الموضوع أقول: أن للحِلْم فوائد، ومنها السلامة من تشوش القلب ومرض البدن، وسائر المشكلات الناجمة عن الغضب. ولكن أعظم الفوائد قاطبةً وهي التي خُلقنا لأجلها، من دونه لا نَسلم لا في دنيانا ولا في أُخرانا وهو الفوز برضا الله الخالق البارئ القادر على كل شيء. فإن الله دعا إلى هذا الحِلم وعدم الغضب في آيات كثيرة منها: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) آل عمران:134. وأثنى على عباده المؤمنين بقوله: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) الفرقان:63.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.