شعار قسم مدونات

انقلاب فوركسي وائتماني.. ما سر هبوط قيمة الليرة التركية؟

blogs الليرة التركية

كان ذلك مساء 15 يوليو/تموز 2016 حين لبّت الأمة التركية نداء المساجد وصيحات الضمائر، وخرجت إلى الشوارع والميادين بكل فئاتها الإسلامية والعلمانية وأحزابها المؤيدة والمعارضة، لتعلن بكل شجاعة وبطولة أمام لصوص الداخل وأعداء الخارج تمسكها بالديمقراطية والشرعية والوحدة، ورفضها لأي انقلاب عسكري أو دور للجيش في العملية السياسية. وبالفعل، وخلال بضع ساعات، تم إفشال الانقلاب رقم خمسة في تاريخ الانقلابات العسكرية التي عانت منها تركيا منذ عام 1960، بعد أن قدّم الشعب التركي الحرّ مئات الشهداء وآلاف الجرحى، أوذوا واستُشهدوا جميعهم لأجل الوطن.

اتهمت السلطات التركية "داخلياً" منظّمة فتح الله غولن المتغلغلة داخل مفاصل الدولة بالوقوف خلف المحاولة الانقلابية الفاشلة، وألمحت الى تورّط بعض الدول الغربية والعربية في دعم تلك المحاولة بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر استخدام القواعد العسكرية، أو من خلال تقديم الدعم المادي بالمليارات للانقلابين، أو الدفاع عن المتهم الرئيسي والامتناع عن تسليمه إلى السلطات التركية، أو اعتبار محاولة الانقلاب العسكري مجرّد أزمة أمنية أو سياسية لا أكثر، أو من خلال استباق الأحداث والحديث عن نجاح الانقلاب ونشر أخبار ملفّقة كخبر لجوء الرئيس رجب طيب أردوغان إلى بلد أوروبي مجاور أثناء محاولة الانقلاب.

أُخمدت نار الانقلاب العسكري في يوليو 2016، واشتعلت بالمقابل نزعة التشفي والانتقام من جديد لدى المتورطين غير المباشرين بالانقلاب منذ ذلك الحين، فكلما اقتربت تركيا من مرحلة ديمقراطية جديدة أو استحقاق سياسي مفصلي، كالانتخابات الرئاسية والبرلمانية المبكرة المزمع عقدها في الرابع والعشرين من يونيو/حزيران المقبل على سبيل المثال، تفنّن أولئك باستهدافها بانقلابات عصرية وحروب ناعمة، لمحاولة الإيقاع بها من جديد، والتخريب عليها والتشويش على مسيرتها الحضارية الملهمة، وخلق جو من السخط الشعبي والقلق النفسي لدى المستثمرين المحليين والأجانب، وبالتالي محاولة التأثير بشكل أو بآخر على نتائج الاستحقاقات القادمة.

السعر الحالي لليرة التركية بنظر الكثير من المستثمرين لا يعكس القيمة الحقيقة لها، فالعملة فقدت منذ بداية عام 2018 وحتى صباح الثالث والعشرين من شهر مايو/أيار ما يقارب 30 بالمئة من قيمتها

تشهد تركيا منذ مدّة انقلابات اقتصادية متعددة مرتبطة ببعضها البعض، كان آخرها حشد رؤوس أموالٍ مُضارِبة لتنفيذ "انقلاب فوركسي" على سعر صرف الليرة التركية أمام العملات الأخرى لا سيّما الدولار منها، الانقلاب الذي سبقه وكان من أحد أسبابه "الانقلاب الائتماني" والقرارات المسيّسة لوكالات التصنيف العالمية مثل وكالة ستاندارد آند بورز، وتخفيضها التصنيف الائتماني لتركيا من درجة BB/B الى BB-/B، واعتبارها من ضمن الفئة "غير المرغوب بها Junk" أو بلغة أخرى الفئة "المغضوب عليها"، التقييم الذي صدر بُعيد الإعلان عن الانتخابات المبكرة مباشرة.

ما يحصل اليوم من هبوط حاد في قيمة الليرة التركية جراء انخفاض الطلب عليها بشكل متسارع ومستمر وبالمقابل ازدياد الطلب على الدولار هو أمر مثير للشك ومبالغ فيه الى حد كبير، لا سيّما أن السعر الحالي بنظر الكثير من المستثمرين لا يعكس القيمة الحقيقة لليرة التركية، فالعملة فقدت منذ بداية عام 2018 وحتى صباح الثالث والعشرين من شهر مايو/أيار ما يقارب 30 بالمئة من قيمتها، والمثير للدهشة في ذلك أن كل العوامل الاقتصادية الداخلية بما فيها معدل التضخم والأحداث السياسية "الحالية" بما فيها الانتخابات المبكرة لا يمكن أن تفسر كل هذا الهبوط الحاد في قيمة الليرة التركية.

فهل يمكننا القول بأن كل هذا النمو الاقتصادي المتسارع والحضور السياسي المتزايد وحجم الاستثمار المباشر وعدد السياح المتضاعف وغير ذلك من أسباب القوة والمتانة والشعبية جميعها لا تشفع لتركيا وأسواقها المالية أمام هذه الانقلابات؟ أم أن موقع تركيا الجيوسياسي كجسر بين الشرق المريض والغرب المتحامل، وصعودها كقوة إقليمية ذات عمق إسلامي يجعل أسواقها المالية عرضة للتأثر طويل المدى بعد أي حدث أو صدمة سلبية، ويفرض على أسواقها المالية بأن تعيش حالة من عدم الاستقرار غير المبرر أحياناً؟ 

وهل ستبقى الحكومة التركية واقفة مكتوفة الأيدي أمام هذه الانقلابات المتتالية التي تستهدف سيادتها الاقتصادية والمالية، أم أنها ستعمل على رأب الصدع بينها وبين المركزي التركي وتسعى بشكل جدي لتسوية بعض الخلافات والاتفاق على سياسات مجدية و اجراءات سريعة من شأنها إعادة القيمة الحقيقية للعملة الوطنية المتهاوية أمام الدولار، أو على الأقل وقف المزيد من تدهورها، وقطع الطريق أمام وكالات التصنيف وغرف الأخبار السوداء التي تستثمر هذا الخلاف بشكل يضر بتركيا واقتصادها وأسواقها؟

وهل سينتصر الشعب التركي بشقه المدّخر والمستثمر "المقتدر" لعملته الوطنية ويسارع من جديد بالتوجه الى شوارع المصارف ويتّحد كما فعل وقت الانقلاب العسكري الفاشل لكن هذه المرة من أجل شراء عملته الوطنية وتعديل كفّة الطلب ليساهم بوقف نزيف عملته أمام الدولار الأمريكي؟ أسئلة تجيب عليها الأيام المقبلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.