شعار قسم مدونات

هل حقاً نحب أمهاتنا؟!

blogs الأم ، الأمومة
هل بالفعل تحب أمك؟ كان هذا سؤالًا سألته أم صديقتي زينة.. هل كنت لتحب والدتك إن كانت جارتك، معلمتك، طبيبتك أو حتى امرأة قابلتها على رصيف ما. هل كنت لتحبها؟ هل كنت لتتمنى مقابلتها مرة أخرى على هذا الرصيف؟ أثار هذا السؤال فضولي، وعمقني في تفاصيل كنت عنها غافلة، هل نحب أحبتنا لذواتهم وقيمهم، أم لسلوكياتهم ومواقفهم تجاهنا وما يفعلوه من أجلنا ومن جمال صحبتهم ومتعتها وزهو أثرها على النفوس؟ هل حبنا صادق عميق لا يتأثر بتأثر الظروف والأقدار؟ هل كنا لنختار القدر والمواقف التي جمعتنا لكرة أخرى؟

هاتفت أمي، دون وجه سبب إلا من اشتياقي وفضولي للتعرف عليها لمرة أخرى بنظرة مختلفة. أخذت أحلل كل تفصيلة، قهقهة وتأويلة.. أمي معلمة لغة عربية. في آخر عام من أعوام مرحلة الثانوية الثلاث، حظيت بفرصة الالتحاق بذات المدرسة التي كانت تدرس فيها أمي، كان الأمر مثيرًا للريبة والدهشة في آن واحد بالنسبة إلي، كنت أخاف أن أبدأ مرحلة التعارف الجديدة بين الزملاء وهم قد كونوا صورة نمطية مسبقة عني بناءً لكوني ابنة معلمة في المدرسة، وما تحمله هذه البُنَيّة من مميزات تصورية لكونها ابنة أحد أعضاء هيئة التّدريس.

كانت جميع أنظار الفتيات موجهة نحو تلك الفتاة الجديدة التي ارتكبت أكبر حماقة قد ترتكبها فتاة في عامها الأخير من أهم مراحل دراستها: الانتقال لمدرسة جديدة: ترك أصدقائها: البقاء وحيدة في آخر عام لها. 

– أنت ابنة المعلمة صفاء أليس كذلك؟

– نعم "ابتسامة توجس".

مواقف الحياة والأقدار التي لا نملك بها حيلة أو اختيار، أصابت حياتنا مصابًا مملاً خاليًا من المشاعر الصادقة والأفعال الصادرة عن رغبة سليمة لا تشوبها شائبة

كنت أجزم على حب جميع الطالبات لأمي، لكثرة الهدايا والدروع والقصص المؤثرة التي كانت تقصها عليّ أمي، ولكن أن أعيش أنا هذا بنفسي وأراه بعيناي كان لا يمت لأيٍ من ذلك بصلة. في هذا العام، تغيرت علاقتي بأمي وأخذت محورًا مفاجئًا في حياتي. كانت المدرسة تلتزم بالقانون الذي يمنع أن تتولى الأم تدريس الصف الذي تتواجد فيه ابنتها، بالرغم من ذلك، كانت حينما تغيب معلمتي، تتناوب المعلمات في إعطائنا الدروس، وأخيرًا أتت أمي.

كنت ابتسم لها في اللحظات النادرة التي جمعت أنظارنا، وكانت تبتسم لي بسمة حب صادقة مُطَمئنة. أتذكر، كم ابتسمنا في المنزل لبعضنا هكذا دون سبب وبغير إلقاء نكتة ما أو الضحك على أفعال أخي الأصغر التي لطالما سخرنا منها سويًا.. لست أذكر.. ما السبب الذي قد يجعلني وأنا في المنزل مع أمي- كالعادة- أتأملها ثم ألقي عليها ابتسامة بلهاء؟ 

هو بالتأكيد ذاته السبب الذي جعلني أتطلع إلى جمالها في الصف وهي تعلم الفتيات قبل أن تعلمني، وهي تنهل بعلمها، وطموحها وشغفها في الحياة لهم، وهي تبث لهم قصصًا كانت قد قصتها عليّ ولكنني أستمع لها اليوم لأول مرة، من شخص آخر، من امرأة جميلة، وليس فقط من أمي.

إن مواقف الحياة والأقدار التي لا نملك بها حيلة أو اختيار، أصابت حياتنا مصابًا مملاً خاليًا من المشاعر الصادقة والأفعال الصادرة عن رغبة سليمة لا تشوبها شائبة. صديقك الذي جمعك به كرسي محاضرة، وأخذت تسليه ويسليك، يحمل في داخله صفاتًا أجمل من مجرد حسه الفكاهي، ومظهرة المنمق، وهذا هو فيْصل الوفاء؛ أن تمعن النظر فتبصر تلك الصفات الكامنة داخله، فتحبه من أجلها، فتوفيه حقه وتفديه عمرك، هذا هو الحب. إن الأفعال ما هي إلا نتاج هيكلة منفردة من المشاعر والقيم التي تميز كل إنسان عن غيره، فوفقًا لقيمك أنت ومبادئك، تحب هذا لقيمه وذاك لمبادئه، وتحلل أفعالهما بناءً عليها. 

بعد كل هذه التأملات التي ما كانت لتبصر النور سوى من محاضرة مملة يبدو عليها الخلود، وتهامس بيني وبين صديقتي الوفية وأمها الناقدة، أسترجع معارفي وجميع من تربطني بهم صلة في حياتي، أسأل نفسي، لماذا أحبك يا نوران، إيمان، سلمى، حنان، فاطمة؟ ماذا جذبني فيكن لأول مرة؟ هل صداقتنا حقيقية؟ الله وحده أعلم، ولكنني قد عدلت عدسة النظر ووضحت الصورة؛ عسى أن يشع منها نور البيان والصدق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.