شعار قسم مدونات

تحديات وبُشريات.. رؤى في مسيرات العودة

blogs مسيرات العودة

قطعت مسيرات العودة في فلسطين وتحديدًا في حربة الصّراع وجذوة المقاومة، قطاع غزة، شوطًا كبيرًا رُبّما لم يتوقعه حتى المُحبّين والمتفائلين، فقد حافظت على كينونتها وجوهر فكرتها لأسابيع طوال، تصدّت فيه لكلّ محاولات وأدها من قبل، ثمّ محاولات قتلها وطمس الصّرخة الأخيرة التي يطلقها اللاجئ في وجه من طرده، يطلقها المظلوم في وجه ظالمه، يطلقها المحروم في وجه من حرمه، يطلقها المُحاصَر في وجه المُحاصِر، يطلقها الضّحية في وجه الجاني، بكل قوة وعنفوان، وبكل جرأة في الحقّ وثقة بأحقّيته في التعبير عن مظلوميته بشتّى الوسائل المتاحة، والتي من ضمنها بلا شك الاعتصام السّلمي.

مرّت المسيرة الكبرى بمراحل من التّطور في محطّاتها المختلفة، شملت اللمسة الإبداعية المعتادة من الشّباب الفلسطيني في إضفاء كل ما هو مميّز على أشكال النّضال التي تُتاح له، فقد شهدنا جميعا تأسيس وحدة "الكاوتشوك" -إطارات أو عجلات السيارات- في ثاني جمعات المسيرة بجهود شبابيّة خالصة، حيث انتفضت مواقع التواصل الاجتماعي بكل منشورات وتغريدات الحثّ على تجميع الإطارات تمهيدا لحرقها في ميدان المسيرة لتشويش الرؤية على قنّاصة الاحتلال حمايةً لأنفسهم ولذويهم من بطش الاحتلال واستخدامه المفرط في القوّة ضد المتظاهرين سلميّا.

هذه المظاهر الشبابيّة، التي احتضنتها وحدة وطنية غير مسبوقة من قبل فصائل العمل الوطني على السّاحة بكافة أطيافهم وألوانهم السياسيّة، حيث تختفي كلّ المظاهر المتعلّقة بالفصائل والتنظيمات

تظافرت جهود الشّباب في الميدان في جمع ونقل وتوزيع وحرق العجلات المطاطيّة، ومن نيرها انبعث نور الشهيد العربيّ العالِم التّونسيّ، المهندس محمد الزواري، فتمّ تشكيل وحدة شبابيّة جديدة، أطلقت على نفسها اسم "أبناء الزواري"، في رسالة صريحة اللهجة للعدو بأنّ اغتياله للعالِم الذي ساهم في تطوير طائرات الأبابيل -التي استخدمتها كتائب القسام في العدوان الصهيوني عام 2014- لم يكن إلّا محطة انطلاق لأبنائه في تحويل نمطيّة السّماء من الأمل إلى الغضب، وتحوير بساطة الطّائرات الورقية التي تُعتبر لعبة في أيدي الأطفال، إلى طيور أبابيل تُلقيهم بفتائل من سجّيل، لتجعل حصادهم كهشيم محتظر.

إنّ هذه العقليّة المقاوِمة المغروسة في نفوس الشّباب، والتي أينعت وحان قطافها في ساعات الحُلكة واشتداد الكرب، هي الإنجاز الأول الذي حقّقته مسيرة العودة الكبرى، حيث نجحت في تحويل يأس الشّباب إلى أمل، وضيقهم إلى انفجار في وجه الاحتلال، وطاقاتهم المُهدرة إلى إبداعات في المقاومة والسلمية وأشكالها، كلّ ذلك جاء بعد أحد عشر عامًا من محاولات كيّ الوعي الغزّي بشتّى الأشكال، التي ذهبت كُلّها أدراج الرّياح، فلا الكيّ البطيء بالتجويع والحصار أجدى نفعًا، ولا الكيّ السّريع بالاعتداءات العسكرية والاستهدافات الميدانية والتّغوّلات المستمرّة لفرض قواعد اشتباك عليّة الكعب مع المقاومة الفلسطينية وجدت دربها عند المواطن الغزّي الذي قلب الطاولة على رؤوس من راهنوا أنّ غزّة وصلت مرحلة الجثيّ على ركبتيها لتطلب الرّحمة من العدوّ الّذي لطالما أوجعته بصمودها وثباتها وقوّة شكيمتها.

هذه المظاهر الشبابيّة، التي احتضنتها وحدة وطنية غير مسبوقة من قبل فصائل العمل الوطني على السّاحة بكافة أطيافهم وألوانهم السياسيّة، حيث تختفي كلّ المظاهر المتعلّقة بالفصائل والتنظيمات، ويلتفّ الجميع بلا استثناء حول راية واحدة وعلم واحد وهو العلم الفلسطيني وحده، فقد اجتمعوا جميعًا في نادرة من نوادر التّاريخ النّضالي الفلسطيني، منصهرين جميعًا في بوتقة واحدة يقودها الشّباب، ويرسم معالمها الشّباب، ويُحدّد مصيرها الشّباب، حيث تنحصر سلطة الحزب وتتجلّى سلطة الشارع، وبكذا تُضطر الفصائل السياسية كافّة لتنصاع لمطالب الجمهور ما يضيف نوع جديد من الوحدة فضلا عن الوحدة ما بين الفصائل وهو الوحدة بين الفصائل والشعب، وهذا من الإنجازات المهمّة التي حققتها مسيرة العودة، خُتمت بمدادٍ من دم الشهداء، ما يستوجب المحافظة عليه.

هذه المكتسبات -وغيرها- تواجه عديد التحديات وكثير العقبات، وهي تزيد ولا تنقص، تتجمع ولا تتفرق، تتراكم ولا تتشتّت، فأعداء المسيرة يزيدون ومؤيدوها الذين لحقوا بركبها لحفظ ماء وجوههم حين اصطفّت جحافل اللاجئين صفّا واحدا بدأوا اليوم بالانقلاب عليها بكلّ ما أوتوا من حِجج يركنون إليها، لا يضرّهم أنّهم يزيدون الصفّ خبالا، ويُضعِفون البنيان المرصوص، ويُحقّقون انتصارا ميداني وإعلامي وسياسي للاحتلال في جولتهم هذه.

الثّوار بمسيرة العودة يُمكنهم أن يلحظوا يَنَعان التضحيات وبريق الانتصار الذي يلمع متخضّبًا بدمائهم وبعرق جباههم، فهم اليوم أقرب إلى الفرج من أيّ وقتٍ مضى
الثّوار بمسيرة العودة يُمكنهم أن يلحظوا يَنَعان التضحيات وبريق الانتصار الذي يلمع متخضّبًا بدمائهم وبعرق جباههم، فهم اليوم أقرب إلى الفرج من أيّ وقتٍ مضى
 

مجزرة الرّابع عشر من شهر مايو، أو المجزرة الجمعيّة منذ انطلاق المسيرات التي أودت بحياة مئة ونيّف من زهرات شباب فلسطين وأوقعت آلاف الجرحى من المتظاهرين المدنيّين العُزّل، لم تتحمل دولة الاحتلال تكلفتها الباهظة هباءً منثورا، بل دفعت فاتورة إرهابها هذا عن قناعة بأنها ستنجح في إرهاب الفلسطينيّين وتخويفهم وردعهم عن إكمال مشوارهم في مسيرات العودة، وهنا لا يمكننا التّظاهر بأن الماكينة الإرهابية للاحتلال نجحت في إحداث بعض الاختراقات هنا أو هناك في الجبهة الفلسطينيّة الداخليّة نحتاج إلى سدّها سريعا وإعادة بناء الثقة بنجاعة الخيار السلميّ في هذه المرحلة الحسّاسة وهذه الحلقة الدّقيقة من حلقات نضالنا ضدّ الاحتلال.

هذه الدّعوة ليست دعوة لغضّ الطّرف عن بعض الأخطاء التي وقعت بها المسيرة أو مرّ بها القائمون عليها نتيجة سوء تقدير الموقف أو سوء قراءة المعطيات ما أدّى إلى خلخلة في بناء النّتائج المرجوّة من بعض مراحل المسيرة والتي أبرزها يوم نقل السّفارة الأمريكية إلى عاصمة فلسطين الأبديّة، القدس، فخرجنا بضربة شديدة الوقع على شعبنا تمثّلت في المحاولة الصّعبة لاقتحام السياج الفاصل ما بيننا وبين أراضينا المحتلّة، وهي فكرة كلّفتنا سيلًا من الدّماء كنّا في غنى عنه، برغم ما أحدثته هذه الدّماء الزكيّة من لفتة لأنظار العالم نحو مظلوميّة هذا الشّعب الأعزل، وهو الأمر الذي يأتي ثانيًا بعد المحافظة على كنز فلسطين الحقيقي المتمثّل في شبابها الثّائر.

أخيرًا، فإن الثّوار في مسيرة العودة يُمكنهم أن يلحظوا يَنَعان التضحيات وبريق الانتصار الذي يلمع متخضّبًا بدمائهم وبعرق جباههم، فهم اليوم أقرب إلى الفرج من أيّ وقتٍ مضى، فهؤلاء الثوار يعلمون جيداً أنّ عدوّهم يملك من العنجهيّة والغطرسة، ما يمنعه من الاعتراف بعلوّ كعبهم عليه، ويجبره على إنكار الصّفعات التي يتلقّاها منهم جولة تلو جولة، فهو يحاول دائمًا ألّا يُبادر هو بالصُّراخ، رغم أنّه يتلوّى ألمًا في معركة عضّ الأنامل، فلا يسمحُ لهم أن يستبشروا خيرا بنصر، ولا أن يتفاءلوا بِشرًا بفرج أو فرح، علّ عزائمهم تنكسر في آخر الدّرب أو أحلكه، أو علّ نفوسهم تَتخّ إذا طال زمان العضّ، وهم يعلمون أنّ لعدوهم في ذلك شواهد كثيرة، كان آخرها انتصار المقدسيّين في معركة البوّابات الإلكترونية، فبعد طول عنادٍ وصبرٍ على العناء، جاءت فرحة الانتصار بين عشيّة وضحاها، دون مقدّمات، ودون مؤشّرات، ودون سابق بُشريات، والنّاظر في حال الاحتلال في حينها، كالنّاظر في حاله اليوم، كبرياءٌ وعُجب، وعنادٌ وعجرفةٌ، ثم انهزامُ وانكسار، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.