شعار قسم مدونات

تركيا والصومال.. ومستقبل العلاقات بينهما

تركيا و الصومال
لم تكن الصومال ضمن أولويات السياسات الدولية طيلة العقود الثلاث الأخيرة، حتى في أحلك الظروف الإنسانية، وعليه ترك الشعب الصومالي يواجه رحى الحرب ونتائجها بمفرده معظم الوقت. وفي السنوات الأخيرة ظهر لاعب دولي جديد في الساحة العالمية وهي تركيا في إطلالة يبدو أنها كانت وما تزال استراتيجية في منظورها وخطواتها، ويعود ظهور الأتراك في الساحة الصومالية إلى العام ٢٠١١ من خلال المساعدات الإنسانية أثناء المجاعة التي ضربت أطناب البلاد.

 

وقد أردف الجانب التركي ذلك بزيارة تاريخية لرئيس الوزراء التركي آنذاك أُردوغان مصطحبا فيها عائلته ومستشاريه لتفقد ضحايا المجاعة. وكان لهذه الزيارة الأثر البالغ في إعادة تسليط الضوء على الصومال وإعادته إلى الحاضنة الدولية تدريجيا. وقد كانت آخر زيارة لزعيم أجنبي للصومال من قبل الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الأب أثناء تفقده لقواته التي كانت ضمن قوات إعادة الأمل. ونظرا للأهمية الجيوسياسية للصومال والمنطقة فإن كلا من الأتراك ودول الخليج أبدو اهتماما واضحا بالمنطقة وبدأ الاهتمام الخليجي مبكرا في المنطقة لكنه لم يتبلور استراتيجيا بشكل واضح، وعليه اتسمت العلاقات بالصومال بمحدودية الأهداف وبردود الأفعال، وتقليديا تمحور دورها حول المساعدات الإنسانية.

 

فيما اتخذ الأتراك منحى استراتيجيا في التعامل مع المنطقة بالرغم من دخولهم المتأخر لها. ومع دخول الأتراك إلى المنطقة، توسع اهتمام الدول الخليجية إلى مساحات أخرى كالعلاقات الدبلوماسية والتجارية والعسكرية، وهو ما أدخل المنطقة في طور جديد من الصراعات الإقليمية بسبب التنافس بينهم. وقد ازدادت وتيرتها مع نشوء الأزمة الخليجية في ٢٠١٧ وانعكس بشكل ملموس على الصومال.

استراتيجية تركيا في الصومال
أدركت تركيا بالوقت المناسب الأهمية الجيوسياسية للصومال، وعليه اتخذتها رافعة استراتيجية لتوجهاتها في المنطقة والتي ترجمتها إلى إقامة علاقة شراكة استراتيجية مع الحكومة الصومالية

يمكن فهم استراتيجية تركيا في الصومال في سياق استراتيجيتها الأوسع لتوسيع علاقاتها ونفوذها مع القارة الإفريقية، وتتمحور حول أمرين هما أولا تنويع الروابط والعلاقات الاقتصادية مع تلك الدول وخاصة أن الاقتصاد التركي الذي بدأ يزاحم الدول الكبار يحتاج إلى أسواق خارجية لديمومة هذا النمو، ثانيا إقامة علاقات سياسية تركية خارج نطاق محيطها الجغرافي المباشر، لا سيما في منطقة حوض القرن الأفريقي.

وقد نجحت تركيا إلى حد ما في استراتيجياتها تلك، فقد توسعت تجارتها مع أفريقيا عدة مرات منذ العام ٢٠١٣، وكان القرن الأفريقي أحد المستفيدين الرئيسيين، وخاصة إثيوبيا والتي لا تزال شريكا تجاريا رئيسيا. وأصبحت الخطوط الجوية التركية، تخدم كل عاصمة في منطقة القرن الإفريقي، كما ضاعفت تركيا عدد البعثات الدبلوماسية التي لديها في القارة بسرعة. أما في الصومال فتركيا أدركت في الوقت المناسب الأهمية الجيوسياسية للصومال، وعليه اتخذتها رافعة استراتيجية لتوجهاتها في المنطقة والتي ترجمتها إلى إقامة علاقة شراكة استراتيجية مع الحكومة الصومالية، هذه العلاقة الاستراتيجية اتسمت بتوجهات ثلاث:

أولا اتساع الدعم والتواجد التركي في البلاد، حيث امتد دعمهم عبر قطاعات متعددة، وقد ساهمت قطاعات تركية في هذا الدعم كالقطاع الحكومي والقطاع الخاص والقطاع الخيري. ونتيجة لذلك، تتمتع تركيا بمستوى أكبر من الثقة مع مكونات الشعب الصومالي، وهذا أمر افتقده الشركاء الخارجيون الآخرون للبلاد كالدول الخليجية. ثانيا وعلى النقيض من بعض الشركاء، أعطت تركيا أولوية كبيرة لعلاقاتها مع الحكومة الفيدرالية، حيث ركزت جهودها على العاصمة مقديشو وضواحيها، بدلا من توسيع علاقاتها مع الإدارات الصومالية الإقليمية. ثالثا تحظى العلاقات الثنائية بين تركيا والصومال دائما بالاهتمام على أعلى المستويات في الحكومة التركية. ويطرح هنا سؤال مهم، وهو مدى نجاعة هذه الاستراتيجية التركية وجهودها في تعزيز شراكتها مع الحكومة الصومالية. بادئ ذي بدء، تشير المؤشرات أن تركيا نجحت إلى حد ما في تحقيق استراتيجيتها بالرغم من وجود بعض الإخفاقات. وهنا سنسلط الضوء على الإخفاقات وأوجه القصور فقط.

إخفاقات استراتيجية تركيا

بلغ حجم التبادل التجاري بين الصومال والإمارات مستوى لافتا، ففي مقال نشره مركز مقديشو للبحوث والدراسات بلغت "نسبة المستوردات الصومالية من الإمارات العربية المتحدة تبلغ ٤٤ بالمائة من مجموع ما يتم استيراده إلى الجمهورية"، حيث تشير التقديرات أنها تتجاوز المليار دولار سنويا فيما تزيد صادرات الصومال لها من عن ٣٠٠ مليون دولار، وتشكل المواشي أهم الصادرات الصومالية إلى الإمارات. أما على صعيد التحويلات المالية فتشكل الإمارات مركزا عالميا لشركات الصرافة الصومالية، وتقدر قيمة حوالات المغتربين بحوالي مليار ونصف المليار دولار سنويا. وهذا بالإضافة إلى الشركات الصومالية العاملة في السوق الإماراتي.

بينما بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا والصومال حوالي ١٠٠ مليون دولار حتى العام ٢٠١٧ فقط، ولكن يحسب للأتراك تنوع استثماراتها استراتيجيا وخاصة في القطاعات الحيوية، كما تتسم إدارتها بالجودة العالية. لكن يبقى ميزان التبادل التجاري يميل لصالح الإمارات، وهو ما يشكل أحد المخاطر في حال توطدت العلاقات التركية الصومالية على حساب العلاقات الإمارات الصومالية، إذ قد يؤدي هذا إلى المزيد من التوترات السياسية وسيدفع ثمنه الشعب الصومالي، وخاصة أن الصومال لا يمتلك القدرات المناسبة لتنويع صادراته في الوقت الراهن في ظل ارتفاع مخاطر الاستثمار في الصومال. وهذا هو المنطق الذي برر فيه رئيس أرض الصومال قراره حينما فضل الإبقاء على العلاقات مع الإمارات بالرغم من وجود إشكاليات بينهم وذلك على حساب علاقاتها مع دولة قطر، وبالرغم من ذلك فقد أبقى الأبواب مواربة وغير مغلقة.

قدرات تركيا الاقتصادية الحالية والممكنة أكبر بكثير من حجم نشاطها الحالي في الصومال، وهو الأمر الذي تحتاج أن تعيد النظر فيه
قدرات تركيا الاقتصادية الحالية والممكنة أكبر بكثير من حجم نشاطها الحالي في الصومال، وهو الأمر الذي تحتاج أن تعيد النظر فيه
 

سياسيا ما زالت الحكومة الصومالية لا تستطيع أن تمد سيادتها على معظم الأراضي الصومالية، فضلا عن أن مسؤوليها ووزراءها لا يمكن أن تطأ أقدامهم منطقة استراتيجية مهمة كأرض الصومال وإلا ربما تعرضوا للاعتقال. كما أن المجتمع الدولي لا زال يعتبر الحكومة الصومالية غير كاملة الأهلية، حيث يفضل التعامل مع أرض الصومال بشكل مباشر فيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية والمعونات المالية الدولية وغيرها.

 

أما الجانب التركي فيتعامل سياسيا مع الحكومة المركزية الضعيفة دون الأقاليم الصومالية الأخرى. كما أن الجانب التركي لا يمتلك الخبرة والفهم العميق لجذور المشكلة الصومالية وتشابكاتها وامتداداتها، هذا الأمر قاد إلى فشلها في إدارة المحادثات بين الحكومة الفدرالية وأرض الصومال والتي بدأتها في العام ٢٠١٢. ومما يعزز من وجهة النظر هذه هي أن الجانب التركي لا يمتلك مراكز الأبحاث المتخصصة في المشكل الصومالي خاصة والقرن الإفريقي.

ويبدو أن الفهم الاستراتيجي للشأن الصومالي من قبل الأتراك بدأ يتحسن نوعا ما في الفترة الأخيرة، وذلك حينما بعثت أرض الصومال برسائل سياسية هامة للأتراك عندما أغلقت مقار جماعة فتح الله كولن وتسليمها للحكومة التركية نهاية العام ٢٠١٧، وهو الأمر الذي تلقفه الجانب التركي بابتهاج كبير، بعدها تكثفت زيارات الوفود التركية الرسمية إلى أرض الصومال دون إغضاب الحكومة الصومالية المركزية. وقد تمت ترجمة ذلك إلى سلسلة من المشاريع الاقتصادية والتجارية، وهذا أيضا قاد الحكومة التركية إلى الانفتاح على بقية الأقاليم الصومالية تدريجيا وإن كانت خطواتها بطيئة.

الخلاصة
المراقب للشأن الصومالي يدرك أن المدخل الاقتصادي هو الأهم في تحقيق المصالحة السياسية في الصومال وإعادتها للمجتمع الدولي بعد غياب ما يربو على ثلاث عقود

لا شك أن الأتراك بذلوا جهودا سياسية واقتصادية كبيرة لكي يكون لهم تواجد فعال في الصومال، وبالرغم من الصعوبات فقد كانت النتائج إيجابية إلى حد كبير، وقد نالوا بسبب ذلك ثقة الصومال حكومة وشعبا. إلا أنه توجد إخفاقات، ولذا تحتاج استراتيجيتهم إلى تقييم حقيقي ومستمر وإعادة صياغة تموضعها الاستراتيجي في الصومال بما يحقق لها محصولا استراتيجيا يتناسب مع حجم جهودها في المنطقة، وبحيث تكسب جميع الأطراف الصومالية وتقلل من حجم الخسائر في علاقاتها الأفقية والرأسية.

 

وهذا يستدعي منها إنشاء علاقات أوسع مع الأقاليم الصومالية بالتوازي مع علاقاتها الحكومة الفيدرالية، وهذا من شأنه أن يسهم في توطيد وترسيخ سياسات تركيا في المنطقة. وخاصة أنه لا توجد إدارة سياسية صومالية رشيدة وناجحة كما ينبغي للاستفادة من الجهود التركية وغير التركية، وهو ما جعل بعض الأقاليم تشغب على مساعي الحكومة المركزية وما زالت. وقد استفادت من ذلك بعض الأطراف العربية المتحفظة على الدور التركي في الصومال وهو ما أدى إلى تصاعد وتيرة الاضطرابات السياسية والأمنية في الصومال إلى حد ما.

كما أن قدرات تركيا الاقتصادية الحالية والممكنة أكبر بكثير من حجم نشاطها الحالي في الصومال، وهو الأمر الذي تحتاج أن تعيد النظر فيه، وخاصة أن المدخل الاقتصادي في علاقاتها مع الصومال وشعبه يشكل أهم الأدوات في تقريب الهوة بين الفرقاء السياسيين في الصومال وبالتالي تقليل المخاطر السياسية في المنطقة. فالمراقب للشأن الصومالي يدرك أن المدخل الاقتصادي هو الأهم في تحقيق المصالحة السياسية في الصومال وإعادتها للمجتمع الدولي بعد غياب ما يربو على ثلاث عقود، وهو حتما سيساعد في تحرير قرارات الحكومة الفيدرالية من الضغوطات الخارجية وابتزازها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.