شعار قسم مدونات

أم كلثوم والبلاط.. الوجه الأخر "للست"

blogs - أم كلثوم
لن أغوص في مدح وتمجيد "الست أم كلثوم" كما يفعل الكثيرون، الذين يتنافسون في وصفها والإشادة بفنها، فالأعداء قبل الأصدقاء والكارهين قبل المعجبين يشهدون بأنها أسطورة لن تتكرر أبدا، لكن كيف استطاعت "أم كلثوم" الوصول إلى القمة والتربع على عرش الأغنية المصرية والعربية؟

   

لعل أبرز هذه الأسباب هي علاقتها الوطيدة بالسلطة والحاكم، قدرتها على التملق، فمنذ أن أصبحت "الست" تمتهن الفن، عاصرت العديد من حكام مصر، بداية من "الملك فؤاد الأول" في عهد مصر الملكية، وانتهاء بالرئيس "أنور السادات" في عهد مصر الجمهورية، كانت علاقة "كوكب الشرق" بجميع حكام مصر التي عايشتهم علاقة ممتازة، فقد كانت فنانة السلطة بامتياز، وسعت دائما لتقديم الأغاني الوطنية التي تشيد بالحكام، مما جعلها تحافظ على مكانتها في مختلف العصور السياسية التي مرت بها مصر.

التملق زمن الملوك

البداية كانت مع الملك فؤاد الذي لم تبلغ شهرة "الست" في عهده ذروتها. في عام 1932 كان الملك حاضرا في افتتاح مؤتمر الموسيقى العربية الأول، وكانت "أم كلثوم" من ضمن المشاركين في الحفل، وقد استغلت حضور الملك لتغني "حفظ الهوى" وخصوصا ذكر اسمه ضمن أبياتها، "أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا – ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعا" وقد نالت القصيدة إعجاب الملك، وكانت بداية تودد "الست" للعائلة المالكة.

أقيم حفلا بمناسبة عيد الفطر، وكانت تحييه "أم كلثوم"، وخلال غنائها "يا ليلة العيد" دخل "الملك فاروق" الحفل، فاستعاضت عن بعض أبيات الأغنية بأبيات أخرى لمدح "فاروق" والإشادة به

بعد موت "الملك فؤاد"، وتقلد ابنه "الفاروق" زمام الحكم وتحديدا في 11 فبراير 1937، كان "قصر عابدين" يحتفل بعيد ميلاد الملك، -الملك فاروق- كان الحفل يتضمن عدة فقرات شعرية وموسيقية لأبرز الوجوه الفنية، "كمحمد عبد القدوس" و"زكرياء أحمد" وكان الحفل يتخلله وصلات غنائية "لأم كلثوم"، غنت "كوكب الشرق" في تلك الليلة 14 مقطوعة، كلها لا تخلو من اسم الملك والتملق إليه حتى أطلقوا عليها "الفاروقيات".

 

في عام 1944 أقام نادي الأهلي حفلا بمناسبة عيد الفطر، وكانت تحييه "أم كلثوم"، وخلال غنائها "يا ليلة العيد" دخل "الملك فاروق" الحفل، واتجه نحو طاولته، لتستعيض عن بعض أبيات الأغنية بأبيات أخرى لمدح "فاروق" والإشادة به، لينعم عليها الملك بعد الحفل "بوسام الكمال"، لتكون صاحبة العصمة وهو وسام مقتصر فقط على الأميرات وملكات الأسرة الحاكمة، وهو ما أغضب أغلب أميرات العائلة المالكة الحاصلات على نفس الوسام، فكيف لريفية أتت إلى القاهرة على ظهر حمار أن تصبح صاحبة عصمة مثلهم، واستمرت علاقتها بالملك قوية حتى سقوطه إثر اندلاع ثورة يوليو.

الست وعبد الناصر.. الانقلاب مع المنقلب

بدأت علاقة "أم كلثوم" بضباط الجيش "الضباط الأحرار" قبل ثورتهم بأربع سنوات أي سنة 1948، أثناء حصار "الفالوجة"، عندما طلبوا من القيادة في مصر أن تذيع الإذاعة في حفل أم كلثوم أغنية "غلبت أصالح في روحي"، وفعلا لبت "الست" طلب الكتيبة المحاصرة، وأهدتهم الأغنية، إضافة إلى أغنية "أنا في انتظارك"، وبعد فك الحصار وعودة الجيش استقبلتهم في بيتها بصفتها نقيبة الموسيقيين، وكان قائد المجموعة حينها "سيد محمود طه"، وكان "جمال عبد الناصر" ضمن كتيبته.

undefined

لدى اندلاع ثورة يوليو 1952، واستيلاء "الضباط الأحرار" على الحكم، قاموا بتنقية الجمهورية الجديدة من كل من كانت له علاقة بالملك والنظام الملكي، وفي هذا السياق تم تنحية "أم كلثوم" من منصبها "كنقيب للموسيقيين"، وكذلك منعت أغانيها من الإذاعة باعتبارها من رموز "العهد البائد"، لكن "عبد الناصر" كان له راي أخر، فأوقف كل القرارات المجحفة بحقها، واعتبرها أقوى سلاح لتأييد الثورة، ومنذ ذلك الحين ارتبط اسم أم كلثوم ارتباطا وثيقا بجمال عبد الناصر، وغنت له العديد من الأغاني "يا جمال يا مثال الوطنية"، وأغنية "قم"، وحتى بعد نكسة 1967 كانت أم كلثوم أول من غنت له أغنية "حبيب الشعب"، وكذلك كانت من أكبر أبواق الدعاية لصالح المجهود الحربي عقب النكسة.

 

ولم تكن صداقة "الست" تقتصر فقط على شخص "عبد الناصر"، بل كانت صديقة كل العائلة وخصوصا حرمه "تحية كاظم". عقب وفاة "عبد الناصر" في 28 سبتمبر 1970، انهارت "أم كلثوم"، وحزنت حزنا شديدا، وقررت أن لا تغني مجددا، حتى اتصلت بها "تحية كاظم" أرملة "عبد الناصر" واقنعتها بالرجوع.

undefined

أم كلثوم والسادات.. برود العلاقة مع السلطة

بعد أن أصبح "انور السادات" الرئيس الثالث لجمهورية مصر العربية، أصبحت حرمه "جيهان السادات" حريصة كل الحرص للانفراد بكونها سيدة مصر الأولى، وهو الأمر الذي جعلها تشن حربا غير مباشرة على أم كلثوم، كونها كانت الوجه النسائي الأول لمصر طوال حكم الرئيس عبد الناصر، فتم منعها من الحفلات الرسمية للدولة، التي كانت لا تتخلف عن أحيائها، وكذلك الحفلات الخارجية، فبخلاف حفلة أبوظبي عام 1971، والتي كانت بدعوة شخصية من "الشيخ زايد" حاكم الإمارات، لم تقدم "كوكب الشرق" ولا حفل خارج مصر، كما أصدرت الأوامر للإذاعة والتلفزيون بتقليل بث أغاني أم كلثوم، مقابل تكثيف أغاني فنانين أخرين.

 

وهذا ما أكده الدكتور "يوسف إدريس" في حوار له مع قناة ماسبيرو زمان يقول: "إن الخلافات بين "أم كلثوم" و"جيهان السادات" زادت في الفترة الأخيرة من حياة أم كلثوم، لرغبة جيهان في أن تكون السيدة الأولى، وظهر ذلك في أكثر من حوار بين المقربين منهم" ويضيف "إدريس": "أن أم كلثوم كانت ملكة حقيقية، لم يظلمها سوى جيهان السادات، حتى أن نصف ضباط الجيش دخلوا بكارت فقط من "أم كلثوم"، لكن رغبات "جيهان" كانت السبب وراء الخلاف، بل وأوقفت حفلات لأم كلثوم أيضًا".

لكن كل ما كان يثيره الكتاب والنقاد بسبب الخلاف مع أم كلثوم، كانت جيهان السادات تنكره وتنفيه، بقولها: "كانت تضحك عندما تسمع عن وجود خلاف بيني وبينها، وكنت أزورها، وعندما سافرت إلى أمريكا وعدت وجدتها مريضة في المستشفى وذهبت إليها" وأضافت "جيهان": "علاقتي بأم كلثوم كانت قوية ومرتبطة، ولم يحدث أي خلاف بيننا، وكنا دائمًا ما نذهب للعشاء عندها في منزلها". من المؤكد أن توتر العلاقة بين "الست" و"جيهان السادات" (حقيقة أم إشاعة كانت)، قد أثر سلبا على علاقتها بالسلطة، فلم تعد "أم كلثوم" فنانة السلطة المدللة، وكذلك لم تعد تنفرد بكونها الوجه النسائي الأول في مصر.

يجهل الكثيرون أن "أم كلثوم" خاضت عديد المعارك السياسية والفنية، -منها ما ذكرناها ومنها ما لم نذكرها- التي هددت مكانتها الفنية وحياتها أيضا، هذه المعارك لم تكن لتلحقها؛ ما لم تكن قريبة من السلطة والحاكم، لكنها استطاعت الخروج منتصرة في كل معاركها، ما عدى معركتها الأخيرة التي انهزمت فيها بسبب المرض والسن، وماتت وهي متأثرة بها (3 فبراير 1975). لكن ارتباط "الست" المتواصل بالسلطة، يفتح لنا باب الحديث عن موضوع أكثر شمولية، ألا وهو علاقة السلطة بالفن، العالمان الذي من المفترض أن يكونا مختلفين، الأول تغلب عليه التدابير الوقتية والمصالح الشخصية، والثاني هو مساحة للإبداع، خالية من الحدود والقيود، فكيف لهذان العالمان أن يتقاطعا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.