شعار قسم مدونات

أرجوك.. توقف عن القراءة!

blogs قراءة

"أكيد هناك أخطاء قاتلة ارتكبتها لكنّي لا أذكر معظمها، هذه مزية تفاعل الهروب الشهير الذي يجعلنا ننسى، ومنها أنني انعزلت وقرأت أكثر من اللازم بينما كان زملائي يمارسون الحياة ولا يقرؤون عنها ربما كنت بحاجة إلى جرعة انفلات أقوى لكنّي كنت أشعر بأنني سأغير العالم ولم يكن عندي وقت لهراء الآخرين اليوم أجد أنهم لم يكونوا بهذه الحماقة"

كانت تلك أحد الاقتباسات التي خطتها يد الراحل الحاضر أحمد خالد توفيق وهو نتاج لدرس ربما تعلمه بعد عمر طويل وفيض مديد من الزمن ليخطه على مرأى الكثير من الشباب الحالم والواعي الذي يدفن نفسه حرفيا بين مجلدات الكتب وصحافها مكتفيا بها ومنعزلا ومنقطعا عن ذلك العالم الخارجي بكل ضوضائه وحركيته التي لا تتوقف فيكتفي بعالم تصوره الحكايات والروايات ويتراءى له ذلك العالم الذي امدته به صفحات الكتب ودواوينها ويرى بعيون كتابها لا أعينه وهو يستشف نسيم الروابي وتداعب وجهه شمس الصيف الحارقة يغوص في أعماق المحيطات حينا بينما ينتفض محلقا بين السحب مع كتاب أخر.

ذلك الدرس الذي تعلمه الدكتور أحمد خالد توفيق بالطريقة الصعبة والذي احتاج لاستيعابه قدرا مقدرا من الزمن لم يكن هو الأول فيه وربما وبلا شك لن يكون الاخير فتلك الهالة المرسومة حول مفهوم المثقف وتلك الصورة النمطية التي تغري الشباب بالسعي خلفها تحفهم صورة المثقف أنيق الملبس لبق الكلمات تقطر كلماته شعرا ونثرا وتتوسط وجهه نظارته الطبية بشموخ بينما يتقلب في سريره الوفير تناجيه مجلدات الكتب وتداعبه رائحة الكتب القديمة فينتشى عند ملمسها وتعتريه حالة من الحنين عند مطالعتها تزين جدران مهجعه وصومعته الحصينة التي يعكف فيها يلتهم أمهات الكتب الواحد تلو الاخر بينما يداعب بكفه الآخر كوبا من القهوة يعتبرها أحد طقوس القراءة وعاداتها التي لا تنفصل عنها.

تلك الصورة التي حذت ببعض الشباب خصوصا والقراء عموما بجميع مراحلهم وأعمارهم بمحاولة تقمص تلك الصورة النمطية التي جسدت وفصلت على مقاس الشخصية التي من المفترض وصفها بالثقافة تلك الصورة الجميلة والجاذبة للبعض حذت بهم إلى الانغلاق على النفس والانكماش بعيدا عن فئات وأطراف المجتمع الأخرى للدرجة التي ينظر فيها بنوع من التعالي أو حتى العزلة عن محيطه الخارجي تلك العزلة التي تتحول شيئا فشيئا إلى شيء طبيعي لا يثير في نفسه الغرابة ولا العجب وهو ما قد يسبب ضررا جسيما على فترة طويلة من الزمن.

نتيجة ظاهرة عندما تتبدل المناصب والمواقع فتضحي القراءة غاية في حد ذاتها بعد أن كانت وسيلة لتحصيل المعرفة يختزل فيها البعض الحياة بين صفحات الكتب وأغلفتها

يفسر الباحث والدكتور إدوارد سعيد تلك الحالة فيقول معقبا: "أن المثقف باعتباره منفيا يميل إلى الإحساس بأن فكرة الشقاء تسعده حتى أن الاستياء الذي يكاد يشبهه عسر الهضم قد يصبح لونا من ألوان سوء الطبع أو انحراف المزاج الذي يتحول الى أسلوب تفكير بل أيضا الى مأوى جديد له وإن كان مؤقتا، فيجد في عزلته نوعا من السلوى والانفصال عن واقع بل حتى قد يستمتع بتلك العزلة إلى نوع ما تلك العزلة التي لطالما كانت رفيقا لي خلال فترة ليست ببسيطة قضيت فيها ليالي وأياما بين صفحات الكتب دواوينها فكانت عيني التي أبصر بها وأذني التي أسمع بها ولكن المشكلة الوحيدة التي كانت تواجهني ان ذلك العالم الذي كنت أقرأ عنه لم يكن هو ذات العالم الذي اكتشفته لاحقا فالبشر في كتبي ليسوا كأولئك الذين واجهتهم وجها لوجه في غياهب الحياة وأغوارها البشر في كتبي لا يكذبون صادقون صريحون تخرج كلماتهم تزينها القوافي وتسطع بجميل العبارة وعميق دراية البشر في كتبي كانوا مثاليين، مثاليين جدا، لم أضق ذرعا بهم إلا مرات قليلة جدا الناس هنا مختلفون، مختلفون جدا، عن أولئك الذين لطالما جالستهم بين صفحات كتبي وسامرتهم في ليالي عزلتي العالم هنا ليس كذلك العالم الذي كنت جزء منه".

وتبدو أنها مشكلة عويصة قديمة متجذرة بقدم القراءة وهوس تحصيل العلم فها هو المازني يقول: "وبحسبي مِن ذلكَ أن صارت مجالسُ النّاسِ وأحاديثهم عندي غثّةً لا تكادُ تُساغ ولا تُستمرَأُ وإنّي مضطرٌّ أن أُعالجَ نفسِي لأُطيقها وأصبِر عليهَا ولا أقولُ لأستمتعَ بها وليسَ ذلكَ لعزوفٍ طبيعيٍّ عن النّاسِ وكراهةِ مُخالطتهم ولكنّها الكتبُ قبّحها الله! ردّتني كالمُترفِ الذّي تؤذيه خُشونةُ العيشِ! أليسَ قد عِشتُ بينَ خيرِ العقولِ وأحسنِ النّفوسِ وألِفتُ أنْ أتناولَ عُصارة الأذهانِ وخلاصتها النّقيّة المُمحّصَ كيف لمنْ يقضِي الشّطرَ الأكبرَ من أيّامهِ ولياليهِ بينَ شُعراءِ الدّنيَا وكِتابها بإطاقةِ المُستوى الذي لا تكادُ ترتفعُ عنهُ أحاديثُ المجالِس وما للكِبرِ دخلٌ في هذا وما للغرورِ أُصبعٌ فيهِ ولا ظفرُ وإنّما هي العادةُ التي يقولونَ عنها أنّها إنّها طبيعةٌ ثانية".

ذلك الإحساس الذي اختلجت به نفس المازني قل قرن من الزمن ما زالت تعوث بوادره في نفوس القراء وتنغص عليهم ما ان يخرجوا ليصطدموا بعالم يمتزج فيه الكبير والصغير العالم والجاهل الراعي والطبيب لتصطدم بزوبعة من مختلف الخلفيات والمرجعيات الثقافية في مجتمع متداخل ومتشابك لا يشبه بأي حال كتبك التي لطالما عكفت عليها.

جميل أن تغوص بين صفحات الكتب ننقب بها عن درر المعرفة، لكن لا تسمح لجمالها أن ينسيك جمال الحياة، لذلك أرجوك توقف عن القراءة قليلا وعش ما قرأت للحظة
جميل أن تغوص بين صفحات الكتب ننقب بها عن درر المعرفة، لكن لا تسمح لجمالها أن ينسيك جمال الحياة، لذلك أرجوك توقف عن القراءة قليلا وعش ما قرأت للحظة
 

تعلمت إثرها أن الثقافة ليست حكرا على شاربي القهوة ومرتادي المقاهي الثقافية والدواوين الشعرية تعلمت من الكهل الذي كان يمر يرتسم على وجهه الرضى مالم اتعلمه من بعض الكتب ومجلداتها وتعلمت من راعي الغنم الذي يحمل كتابا يؤانسه بينما يرعى أغنامه مالم اتعلمه من فطاحلة الثقافة وشيوخ الكلم أيقنت أن الثقافة ما هي إلا نتاج لمجموعة من التجارب المكتسبة وجد بعضهم القدرة على خطها في بطون الكتب بينما لم يحظ الجزء الاخر بذلك الحظ فألحقت تجاربهم بهم إلى ظلمة القبر وغياهب النسيان.

تلك الدروس البسيطة التي ما أن تصطدم بأحد الشخوص في حياتك اليومية الذين ربما لا يعير لهم البعض بالا لينتهي بك المطاف تتعلم من بين ايديهم المشققة وجباههم التي اكتوت بلهيب الحياة ما لن تجده في بطون الكتب، يقول زوربا اليوناني وهو الذي علمته الحياة ثم انتهى به المطاف ينشر ما جادت به الحياة عليه من دروس ساخرا للرئيس: "طبعا إنك لا تصدقني فكتبك لا تقول لك أشياء كهذه، حتى ينتهي الأمر ببطل الرواية معترفا موقنا، إن زوربا يرى يومياً كل الأشياء للمرة الأولى.

نتيجة ظاهرة عندما تتبدل المناصب والمواقع فتضحي القراءة غاية في حد ذاتها بعد أن كانت وسيلة لتحصيل المعرفة يختزل فيها البعض الحياة بين صفحات الكتب واغلفتها وليس هناك ابلغ من رد كافكا على ذلك الشاب الذي صرح قائلا: "أنني لا استطيع العيش بدون الكتب إنها بالنسبة إليّ العالم بأسره"، فقطب كافكا حاجبيه وقال: "هذا خطأ إن الكتاب لا يستطيع أن يعوض العالم هذا غير ممكن، لكل شيء في الحياة معناه ووظيفته التي يمكن أن تشغل بالكامل من قبل شيء آخر، لا يمكن أن نحبس الحياة في كتاب كما يسجن الطائر داخل أقفاص بيد أن هذا محال".

جميل أن تغوص بين صفحات الكتب ننقب في بطونها عن درر المعرفة ومفيدها تستمع بجمال نيلها في موسم الهجرة إلى الشمال أو فوضوية الحارة وضوضائها في أولاد حارتنا أو حتى صدق وعفوية زوربا في رائعة نيكوس كازانتزاكيس ولكن لا تسمح لجمالها أن ينسيك جمال النيل بينما تلفحك نسائمه الباردة ليلا بينما تصادف العشرات من زوربا يوميا على قارعات الطرق لتستشف من تجاربهم وتنهل من عصارة أعمارهم الحية، لذلك أرجوك توقف عن القراءة قليلا وعش ما قرأت للحظة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.