شعار قسم مدونات

إشكالية "الدولة المدنية" في الفكر العربي والغربي

blogs مجتمع

تشكل الأسئلة المتعلقة بمفهوم الدولة المدنية الحديثة مثار جدل وخلاف في الفكرين العربي الإسلامي والغربي المعاصر، لاسيما في التيار العربي، الذي يرى أن الأمة العربية لم تصل بعد لمستوى مفهوم وفلسفة الدولة الحديثة في الغرب، رغم اتفاق المدارس الفكرية؛ على أن الدولة العربية القائمة، تمتلك أدوات الدولة الشكلية، لكنها تفتقد لمضمون الدولة الحديثة أو التقليدية، فان كانت الدولة العربية الحديثة تمتلك عناصر شكل الدولة: الجغرافيا والسكان والسلطة، وربما السيادة، فإنها لا تمتلك لمظاهر مضمون بقاء الدولة: المجتمع المدني المعاصر، الديمقراطية، المواطنة، حقوق المرأة، الانتقال السلمي للسلطة، حقوق الانسان، التنمية الاقتصادية.. الخ.

والمفهوم التقليدي للدولة، أنشأ فعليا في المنطقة العربية دولاً، وفتت اخرى وفق خارطة الأمة الحضارية، بحكم أن هذه الدول هي خليط أو مزيج طبيعي للوحدة العربية الإسلامية القديمة، أو على الأقل التي تفتت بعد تقسيم وسقوط ما يعرف بـ"الخلافة الإسلامية" في الدولة العثمانية الكبرى، إثر اتفاقية سايكس بيكو البريطانية الفرنسية عام 1916م.

بيد أن إعادة قراءة مشهد الدولة العربية ضمن المنهج الوظيفي – السلوكي، يدفع الباحث للتشكيك بفلسفة وجود أو إمكانية تطبيق "مفهوم الدولة" على الكيانات السياسية حديثة النشأة في الوطن العربي الكبير، فالمنهج أعلاه يتبنى مقولة أن تغييب أي وظيفة من وظائف الدولة التقليدية أو الطبيعية، خاصة السلوك الوظيفي المرتبط بالمجتمع، يؤدي إلى إلغاء مفهوم الدولة من الأساس، فحينما تُغيّب أغلب الدول العربية، القائمة حاليا، دور المجتمع المدني، وتعمل على تفكيكه وإعادة تشكيله وفق مصالح ضيقة لا تلبي الصالح العام، وبما يخدم مصلحة استمرارية السلطة أو النظام السياسي، فهي -أي الدولة- تلغي بذلك وظيفة المجتمع السياسية التقليدية: تداول السلطة، المراقبة، المحاسبة، انتاج النظام وطبيعته.  وتلغي أيضا الوظيفة الاقتصادية للمجتمع، وبالتالي تلغي بشكل مباشر وظائفه الاجتماعية ودوره في انتاج قيم مجتمعية تخدم تشكيل الثقافة الجامعة للدولة، ويحل مكانها ثقافة سلطوية فئوية من انتاج النظام أو السلطة المقيّدة لحرية المجتمع.

الثورات العربية كشفت عن عيوب "الدولة العربية" التي قامت على بنيان هش سرعان ما انهار مع انتفاضة الشعوب، فمصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن، لم تشهد لليوم أي شكل من أشكال الاستقرار السياسي

من هنا، يغيب دور المواطنة الفاعلة عن لعب دور مؤثر في مكونات السلطة، في ظل غياب مفهوم فلسفة الدولة، ويصبح المواطن مجرد رعية، بالفلسفة الدينية والسياسية، فيغدو الفرد، ثم المجتمع، عبئا على السلطة، ثم الدولة، فتحاول السلطة القائمة أن تتخلص من هذا العبء، من خلال خلق طبقات اجتماعية واقتصادية متفاوتة، عبر عمليات التجنيس والهجرة واستقبال اللاجئين، تماما كما يجري في بعض الدولة الخليجية ذات الكثافة السكانية المحدودة، وكما يجري في الأردن منذ عقود، والهدف الجلي لهذه العملية: اعادة انتاج ديموغرافيا بشرية جديدة تذيب القوة الاجتماعية – السكانية التي يعود لها الفضل في بناء الوطن، وتخفيف عبء مسؤولية هذه الطبقة على اقتصاد الدولة، وتذويب قيمة الهوية والمواطنة التي تشكل مصدر ازعاج للنظام، وخلق حالة موالاة وهمية لأزمة "شرعية" النظام، وتسهيل مهمة السلطة السياسية بقلب موازين القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية!!

وتؤشر الممارسات الواقعية لدور الدولة العربية، منذ الاستقلال حتى الثورات العربية الأخيرة التي اندلعت خلال الفترة 2010 – 2011، أن ما تأسس من كيانات سياسية في البقعة الجغرافية المتعارف عليها باسم "الوطن العربي" اليوم، هي نماذج سلطة لا دولة، حيث اختزلت كل الأنظمة التي ورثت تركة الاحتلال الأجنبي والاستعمار بكافة أشكاله، مفهوم الدولة وأدورها في سلطة سياسية تمثل الفرد أو الحزب الحاكم، وينبثق عن السلطة حكومة غير منتخبة ، على الأغلب، وظيفتها تطبيق القوانين وحفظ النظام الحاكم وتقييد الحريات والجباية لصالح ثلة صغيرة حاكمة، ما أفقد أغلب الدول العربية عناصر مضمون وفلسفة الدولة الحديثة سواء الديمقراطية التقليدية أو المدنية المعاصرة.

كما ان السلطات الحاكمة، في البلدان العربية، خلقت لنفسها "شرعيات وجود" متباينة، القاسم المشترك بينها، أن لا شرعية منها تمثل إرادة الشعب أو جاءت بانتخابات ديمقراطية نزيهة، فبعض الأنظمة العربية شكلت سلطة شرعية باسم الثورة والانقلاب، فأخذت البعد الأمني من مفهوم السلطة، وتحولت الى سلطة عسكرية بزي مدني، كما في مصر والجزائر وسوريا والعراق "سابقا" والصومال والسودان وغيرها. ونزعت دول عربية أخرى الى شرعية القبيلة والعشيرة،، وبعضها الى سلطة دينية، وبعضها الى شرعية "طائفية"، وبعضها جمعت بين شرعية الوراثة والدين والقبيلة.

ولم تتمكن الدولة العربية، حتى اليوم، من تشكيل سلطة واقعية ومنظّمة لحماية المجتمع والدولة، بل صنعت سلطة سياسية وأمنية هدفها الدفاع عن النظام القائم، وليس عن الدولة بتكاملها وحدودها، ووظيفتها التسلط على مقدرات البلاد والعباد، فاختفى التفاعل الايجابي السلمي بين المجتمع المدني ومؤسسة الحكم أو السلطة السياسية، وبالمقابل أنتجت بعض الأنظمة العربية، أشباه مؤسسات مدنية تمثل المجتمع والقوى السياسية المعارضة، هدفها الأساس الاستجابة للضغوط الأمريكية والخارجية، وتخفيف الاحتقان الشعبي، لكن تلك المؤسسات ثبت انها مجرد مؤسسات "وهمية" سقطت بسقوط بعض الأنظمة العربية في الثورات العربية الأخيرة، لأنها لم تمثل المجتمع المدني برمته، بل كانت غطاءً لممارسة دور الدولة الأمني والبوليسي والدفاع عن "شرعية النظام الوهمية" أمام المجتمعين المحلي والدولي.

وتواجه الدولة العربية الإسلامية المعاصرة، سلسلة معقدة من الازمات البنيوية الخانقة، جزء من هذه الأزمات ولدت من رحم الحضارة والثقافة الإسلامية التي أسست لدولة الأمة الشاملة ولم تؤسس لمفهوم دولة وطنية محددة قائمة على أساس الحرية والفكر والإبداع وتداول السلطة والتنمية. الخ، فأغلب الدول العربية ما زالت ضعيفة في تركيبها النيوي: بين دولة فاشلة وفق التقارير الدولية، أو مقسّمة، بفضل الحروب والاستبداد، أو "تائهة" ومنغمسة في تقسيم طائفي، أو ما زالت في مخاض النزاعات الجهوية، أو لم تدخل بعد دائرة الحداثة والتنمية والحرية، وتدار "بفقه" شرعية القبيلة والدين.

والثورات العربية الاخيرة كشفت مزيدا عن عيوب "الدولة العربية" التي قامت على بنيان هش سرعان ما انهار مع انتفاضة الشعوب، فمصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن، لم تشهد لليوم أي شكل من أشكال الاستقرار السياسي، فالمشكلة ، كما توقع البعض، لم تكن في سقوط هذا النظام أو ذاك، والخلاص من الاستبداد، وإنما في مجمل التركيبة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي انهارت بانهيار النظام الذي كان يمسك بتلابيب البلاد وفق منهج النزعة الفردية، فانهارت بنى ومؤسسات الدولة بسقوط النظام، لأنها أسست بشكل سلطوي هرمي يخدم النظام لوحده، دون ان يكون للمجتمع المدني دورا في هذا البناء. 

تحللت الهموم الوطنية الى شؤون ضيقة، فئوية وعشائرية وطائفية، فتحول النزاع من عربي- اسرائيلي، الى نزاع سني شيعي
تحللت الهموم الوطنية الى شؤون ضيقة، فئوية وعشائرية وطائفية، فتحول النزاع من عربي- اسرائيلي، الى نزاع سني شيعي
 

ويمكن توصيف وتشريح أزمة الدولة في التاريخ العربي والإسلامي المعاصر في ثلاثة مستويات متلازمة: مستوى سياسي تبرز فيه السلطة بشكل سلطوي في يد فئة قليلة تحتكرها، وتستنزف موارد البلاد وتشيع فيها الفساد والرعب، ومستوى اقتصادي؛ أصبحت فيه الدولة ريعية وتستثمر ثروات الدولة لصالح النظام القائم وتغيب برامج التنمية الحقيقة، ما أدى الى انتشار الفقر والبطالة. ومستوى اجتماعي يقوم على تقسيم فئات المجتمع على أساس طائفي وقبلي وإثني، وخلق حاشية موالية للنظام، من رجال اعمال وسياسيين ورجال دين وواجهات عشائرية وقبلية تمارس دور الوسيط بين فئات المجتمع والنظام، للسيطرة على حركات الاحتجاج الشعبية وتقييد دور مؤسسات المجتمع والأحزاب في توجهاتها التنافسية، فأصبحت تلك "الحاشية" أكثر فسادا من رموز النظام، لأنها امتلكت دعم السلطة من جهة، وشعبية بعض قوى المجتمع من جهة أخرى، فامتلكت المال والسلطة في آن واحد.

وعلى الصعيد القومي، كأيديولوجية، عقّدت من المشهد السياسي في الدولة العربية، فمنذ حرب الخليج الثانية عام 1990/1991م، وما تلاها من احتلال العراق عام 2003م، تغيّر المظهر العام للمنطقة العربية، وانهزمت "فكرة القومية" مقابل "الدولة القُطرية"، وسقطت الحركة القومية ومشروعها، وحل مكانها "مشروع الشرق الاوسط الكبير" منذ عام 2004م، بهدف إعادة "فك وتركيب" دول المنطقة، ومع سقوط الانموذج القومي، واجهت الدولة العربية ثلاثة انماط من الازمات: أزمة بقاء او تفتيت الدولة الوطنية، وأزمة شرعية واستقرار السلطة السياسية، وأزمة جدل تنوع الثقافة السياسية والاجتماعية في بنى المجتمع العربي.

والشواهد التاريخية القريبة تثبت اليوم فشل المشروع القومي، بعد أن تغلبت الاتجاهات القطرية والطبقية الضيقة، وتحولت هموم الأمة القومية إلى هموم قطرية، ثم تحللت الهموم الوطنية الى شؤون ضيقة، فئوية وعشائرية وطائفية، فتحول النزاع من عربي- اسرائيلي، الى نزاع سني شيعي، والتظاهر لأجل الحرية في حركة الاحتجاج الشعبي الى حركة البحث عن "العيش والخبز" وانتشر العنف المجتمعي، واتسع نطاق الاستغلال والاستبداد، وانبعثت من شجون الماضي الهويات الاثنية والدينية وزاد الانقسام داخل المجتمع الواحد، وفقد أبناء الدولة العربية، في خاتمة المطاف، أدنى حقوق المواطنة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.