شعار قسم مدونات

وطن مؤتمن على الشقاء

blogs الغوطة

حسناً، يمكنك دوماً أن تختلق حياة أخرى كي لا يصيبك الجنون ولكن الحياة التي تسري في عروق مخيلتك لا تنسيك مرار الصباح في واقعك.. نحن رعايا المناقصات الانتهازية جميعها، نحن الأداة والتطبيق والثمن، الأقوام المستضعفة هم وحدهم من يعرفون ملامح الجوع ويرسمون لوحات الصبر ولوحات الصراخ أيضاً، من يدشنون ثورة الجياع.

حسناً، لنكن واضحين، لا يمكنني أن أبيعك وطني ولكن لا يمكنك أيضاً أن تذيق أطفالي وأنا الجوع والمر والمرار والإهانة، هذه صفقة أخرى خاسرة.. كل ما في الأمر أننا نمضي نحو الاعتياد على الأمر، على ضياع الأحلام وهروبها، والخوف من الأسلحة الموجهة إلى الجبين، والرضا بالأوراق القليلة التي لم تعد كافية لمنح حياة لأحد، لماذا يغضب العالم عندما نسقط تحت لهيب المدافع ولا يبكي عندما يصطف أرباب المساكين على أبواب المصارف لالتقاط ما يقذف إليهم منة منقوصة، ملحوقة بالعقوبات والعذابات، نحن ضحايا أرباب الوطن أيضاً ولكننا ضحايا عجزنا وصمتنا أكثر. 

نعم، هكذا يمضي الأمر أيضاً، سيغلقون المنافذ وسيحاولون انتزاع مقابسنا وسنضل نتسامر على ضوء القمر، ستسلب منا الحياة وسننقضي جذوعاً بشرية خاوية، يملأها القل من الأمل والكثير من الغضب، عليكم اغلاق السجون، تلك التي لا تضم سوى أرق الناس ممن لم يستطيعوا احتمال الجوع فمدوا اياديهم، يا ويح الجوع وليس ضمائرهم، لماذا تحاسبون المستهان وأنتم الجائرون عليه؟ أي سجن هذا مصغر في أمة مقيدة، وفي حياة تائهة؟ 

في الطريق، سرب من الحائرين، لا أتذكر الوجوه التي مررت بها ولكنني أتذكر كل أحاديث العيون التي أجريتها وكل المآسي التي سمعتها، كلها تقول لا تسألني ولا تمشي فوق جرحي، دعني أمر إلى حيث أظنه الخلاص

هذا الموعد مع الموت جاء طويلاً ومتسلسلاً، كأن تكون مربوطاً على آلة للحياة، تمنحك ما يكفيك لتبقى تتنفس ولكنك لا تحيا ولا تعرف أي مرادفات عنها وستجد ما بين الحدين الحادين حيث تصطف مقاتلات العدو ثواراً كثر يعرفون أن الحياة صوت من جوف ولكنه مكبل في حنجرة أخرس، وتصبح المرادفات بخاراً في فمي ويخنقني، إلى أن يشع يوماً ويكف الناس كفوفهم عن أفواههم.. أنا هنا مشحون بالرغبات ولا فم لي، قلبي كما ترونه، يومئ بوجعه فحسب وينتظر المذابح القادمة.

أن الوطن لم يكن يوماً يناسب مقاس أحلامنا وتطلعاتنا، ليس الجائر علينا ولسنا نتهمه ولكن الحقيقة أننا نحيا عمراً لا ملامح له ولا يشبه ما يفترض به أن يشبه، ولكننا كلنا نغني رغم الموت: سنرجع يوماً إلى حينا، ونغرق في دافئات المنى، كجندي لا يعلم لماذا يستحق النجمة العسكرية على كتفه، ولكنه مفتخر بأنه يملك واحدة منها تشير إلى ذراعه التي تحمل بندقية وغصن زيتون، سنرجع مهما يمر الزمان، تذكروا دم الوطن المهدور في المحطات القديمة ولا تأبهوا لعناوين الصحف اليومية، في مقاهي الغربة..

ستمر جوار الجثث دون أن تشتم رائحة الموت، وستعبر بمن قرر أن ينتحر على ضفة بحر أو سقف بناء دون أن تسمع صرخات فؤاده المستنجدة، في الطريق، سرب من الحائرين، لا أتذكر الوجوه التي مررت بها ولكنني أتذكر كل أحاديث العيون التي أجريتها وكل المآسي التي سمعتها، كلها تقول لا تسألني ولا تمشي فوق جرحي، دعني أمر إلى حيث أظنه الخلاص، يكفي ما رأيت، هذا المرادف الوحيد هنا بين الحدين، ومنا من يعيد تدوير الحزن فيثابر في كل اتجاه ويسعى في صخر أرض قاحلة.. أخبرتك أننا ننظر إلى الخلاص من واجهاتنا الخاصة، عندما تسقط أحلامنا نعود فنحملها مثقلين ونكمل المسير، يعتمد الأمر على عدد الخسائر التي واجهت، وعدد ما تبقى لك، الحقيقة أنني لا أدرك السر وراء بقاء هذه البقعة من العالم باقية رغم كل شيء، لم يمنحنا أحدٌ الحياة التي ننتظر ولكننا يجب أن نتوقف عن كوننا عباد للخوف، هذا وطن لا آخَر عنه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.