شعار قسم مدونات

بين غول وأردوغان وأوغلو.. دروس في الغدر والوفاء

مدونات - أردوغان وعبد الله غل

لا يخفى احتفاء الناس اليوم بالانتخابات التركية، واصطفاف الناس أتراكاً وغير أتراك مع مرشح تحالف الشعب (الرئيس أردوغان) أو مرشحي (تحالف الأمة). وكذا انشغل الناس بما كان من أحمد داود أوغلو وعبد الله غل، لاسيما ما كان من الأخير في موقفه من الترشّح باسم المعارضة في وجهة أردوغان رفيق دربه ونضاله. يقابله ما خرج به الأكاديمي البروفيسور داود أوغلو. وبالعودة لتلك المواقف نجد أن رجب طيب أردوغان عندما ترشح عبد الله غل للرئاسة خلافاً لما يقتنع به أردوغان أجاب وقتها: مرشحي للرئاسة أخي عبد الله غل، وسانده بكل قوة رغم عدم اقتناعه بترشح غل للرئاسة حينها. وعندما حاول البعض إثارة الفتن بعد إعلان الانتخابات المبكّرة لم يتأخر البروفيسور داود أوغلو فخرج وأعلنها مدويةً: مرشحي هو أخي أردوغان وحزبي هو حزب العدالة والتنمية. غير أن الذي أثار عاصفة من الكلام والتحليل والنقد، بل والتجريح والتخوين أحياناً هو موقف السيد غل الذي قال له يوماً صديقه أردوغان: مرشحي هو أخي عبد الله غل.
   
كثيرون نظروا في تصريحات غل وانسحابه من الترشّح فقط لعدم اجتماع خصوم أخيه أردوغان عليه، وإلا فهو جاهز لخوض الانتخابات وإن كان منافساً لصديق عمره. ليأتي الردّ الأردوغاني على هذا الموقف بالصمت وأن الاحتكام للصندوق الانتخابي. قد يكون غريباً أن أقول: إن ما حصل أمر طبيعي ليس فيه كبير غرابة، وإن كان هذا الرأي غير مستساغ أخلاقياً من كثيرين، لكن الطبيعي في الأمر أن هذا هو حال الدنيا وحال الأقران وحال الأصحاب والرفاق.

 

فقديماً وحديثاً لم يكن الأصحاب على قدْرٍ واحدٍ من الصداقة والوفاء والمودّة، ألسنا حتى اليوم نردّد مع طرفة صياحه من ظلم ابن عمّه: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهنَّد، وهل ننكر أن في تاريخ العرب والتُّرك مَن قتل أخاه رغبةً في الملك! ومن سكتت عن قتل زوجها للغاية ذاتها! وهل ننفي من تاريخنا وحاضرنا عشرات إن لم نقل مئات ممن باعوا أنفسهم للأعداء وتواطؤوا على بني جلدتهم! لا يقول قائل: أولئك كفار وهذا مسلم مؤمن؟ حتى لا نردد النظر فيمن عاصروا القرون الأولى وتنشقوا عبق الرسالة غضة طرية ووقعوا في نحو هذا!!

 

من يأتمنك على سرّه قد أسلمك ظهره وانشغل فيما أمامه، غير آبه للخلف لأنك في ظهره فوجهك عنده وجهه فكأنه ينظر من قدامه ومن خلفه؛ لذا تكون الطعنة أشد ما تكون حينما تأتي من الظهر

ليس المقام مقام الطعن في تاريخنا، ولا نكش الجراح في واقعنا العربي والإسلامي؛ ليشمت العدو ويبتهج ونبرر الخطأ. كلا؛ بل هو حال الأمم كلها في تاريخ الاجتماع والسياسة. ولا يمكن أن ننظر في مواقف السياسة بعيداً كثيراً عن الحياة والمجتمع، فالسياسة حياة أشخاصها من المجتمع تضطره لأمور وتلزمهم أخرى، لكن لوازمها كلها لا تخرجهم عن طبيعتهم ولا أساس أخلاقهم ومبادئهم. وإلا كان السياسي حقاً منفصلاً عن واقعه وحياته، متجرداً من مبادئه وتربيته ودينه.

 
إن ما حصل بين الرؤساء الثلاثة أردوغان وأحمد داود وعبد الله غل إنما هو صورة من حياتنا؛ ليس إلا. هو صورة لمن صحبتَهم في الحيّ أو مكان العمل أو الدراسة، ثم في امتحان الصداقة نجح أحدهم ورسب آخر. ومع هدوء عواصف النقد والتجريح والتعديل يرجع المرء لنفسه ويزين كلام كل طرف، ليكون درساً له من دورس الحياة؛ وما أقسى دروسها!! إنه درس في تمحيص المودّة وإخلاص الصحبة، درس في محو الشوائب من النفوس قبل أن تستولي عليها فتسوقها إلى هاوية الغدر والانقلاب على الصداقة، وما زلنا نردد كلام الأقدمين: المؤمن للمؤمن كاليد تغسل إحداهما الأخرى، فإن كان أذى لزم مزيد من التنظيف والتطهير. فلا يصل المرء إن زاد الأذى وتراكم أن يقول: ما عاد ينفع تنظيف يدي، ويلزم قطعها. ليس مثالاً قاسياً بل واقع نعيشه في حياتنا، لأنك إن وصلت للقطيعة في كل علاقة تشوبها شائبة أو شوائب وجدت نفسك يوماً في جزيرة منفرداً.

 
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط. لكن لا تجامل، بل انصح وواجه؛ ففي المواجهة والمناصحة غسيل للقلوب، فإنها إن أُهملت ران عليها وفسدت وتبخر الأمل بصلاحها وسلامتها. وهل يخفى على أحد حجم الخلاف بين داود أوغلو وأردوغان في السياسة الداخلية والخارجية؟ ألم يكن هذا الاختلاف هو السبب وراء انسحاب أوغلو من رئاسة الوزراء؟ فكيف يؤيد أوغلو أردوغان وبقوة وصراحة دون خجل أو مواربة؟ إنها الصداقة الحقيقية والوعي الكبير لدوائر الاختلاف؛ فكل خلافه مع صديقه وإن كان كبيراً لدرجة دفعه لترك منصبه هو صغير وسخيف أمام انتخابات تحدد مصير البلد والأمة، فتلاشى الخلاف وتبخرت الجراح أمام مصلحة الأمة. وهنا درس آخر لنا في حياتنا؛ أين تخرج الخلافات وأين تختفي، في أية المواقف تصرّح بنقد أخيك أو صديقك وفي أيها تدافع عنه وإن بلغ خلافك معه ما بلغ؛ وليس أن تلوك خلافك معه على كل لسان وفي كل مجلس أمام الصغير والكبير ومن يفهم ما تقول ومن يجهله. ولو كان لاثنين أن يتفقا في كل شيء لكان قدّر المولى جل شأنه أن تتفق بصمات الأنامل، فهل ننفي كل مَن نخالفه في مسألة أو عشرة أو مئة! أنَّى يكون لنا حينها صاحب أو صديق!!

 

أردوغان وعبد الله غل (الأوروبية)
أردوغان وعبد الله غل (الأوروبية)

 
إن من يأتمنك على سرّه قد أسلمك ظهره وانشغل فيما أمامه، غير آبه للخلف لأنك في ظهره فوجهك عنده وجهه فكأنه ينظر من قدامه ومن خلفه؛ لذا تكون الطعنة أشد ما تكون حينما تأتي من الظهر، حينما تأتي من الأخ أو الصديق الذي أسلمته سرّك وظهرك، حينما يعجز عدوّك عن مهاجمتك من بيد يديك لأنك في وجههم وعن يمينك أو شمالك لأنك متنبّه يقظ، فإن غرزوا خنجرهم من وراء ظهرك تكن القاضية. هذا ما لا يمكن قول غيره في موقف غل مع أردوغان وإن أثبتنا أنه من الحياة وأنه أمر طبيعي؛ فهو طبيعي لأن الحياة جُبلت على هذا وذاك، وفيها الحسن والقبيح والوفيّ والغدّار، وكلها سبل ممهدة، وكلٌّ يختار لنفسه المسلك الذي يسلك.
   
لكن الدرس لنا فيه من وجهين: الحذر الشديد إن اشتدت العداوة وتكاثر الأعداء أن يتفقد المرء ظهره وإخوانه قبل أن تدهمه الفاجعة فلا تجد له ظهراً، أو يجد في ظهره سكاكين الغدر. ومن وجه آخر ما كان من الطرف الآخر؛ فكيف قابل الرئيس أردوغان ما كان من رفيق عمره ونضاله؟ إن موقف خذلان يحب المرء فيه نصرته، انتصر له فيه مَن لم يكن يرجو فيه نصره وخذله من كان يضمن نصره ومعونته؛ قد سكت الرد وانصرف للموضوع الأساسي: الجواب في صناديق الاقتراع. وفيه وأد للفتنة قبل أن تتطاير أكثر وأكثر ويمضي في الناس الانقسام والتصافف داخل الصف الواحد، وفيه تعالٍ على الألم وتركه في القلب دون أن يسمح له أن يغيّر مساره ويشغله عن وجهته ومقصده.

إنه درس لنا في ضبط ردات الفعل عندنا؛ فكم من إخوة وقعوا في بعضٍ وتطايرت الفتنة بينهم في العمل أو الدراسة فأتت على علاقاتهم الاجتماعية وقُوضت منها بيوت ودُمرت أسر!! وكم من واحد وقع في أخيه فأعظمَ له الرد وانتشرت الفتنة فأتت على كل ما في النفوس من المودة والمحبة كأن لم تكن!! فهل نخضع ونتجاهل أم نصرّ على الرد والانتقام والثأر للنفس وننشغل عن رسالتنا وأهدافنا؟! إن الأهداف لا تنتظر والرسالة لا تؤخر أو تتبخر، مهما اعترضك من النوائب ومهما أوذيت وأياً كان من يؤذيك؛ فإنه تبّت يدا عمّ النبي الكريم وكان شديداً عليه، فأعرض عنه ومضى لرسالته عليه الصلاة والسلام؛ فبقيت للنبي الصلاة والسلام ولأبي لهب عمّه التباب والخسران.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.