شعار قسم مدونات

وما زلت أبحث عن وليد مسعود

مدونات - ليلة البحث عن وليد مسعود

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتاب "الأيديولوجية الصهيونية": لقد نجح الصهاينة في تحويل المواطن العربي من مواطن متخلّف إلى مواطن غائب تماما. فالخروج من هذا الواقع الذي أسقطه المسيري على القضية الفلسطينية لا يتوفر على خيارات كثيرة، لعل أهمها المقاومة، وجدلية قضية العودة، ناهيك عن الحضور الفلسطيني الإشكالي في الشتات، بما يشمل ذلك من نزعات التنافس، والمبالغة في تكوين وبلورة الشخصية الفلسطينية لعدد من المواصفات لتجاوز أثر الاغتراب على الذات والجماعة. ومن أتون هذه المعركة برزت رواية "البحث عن وليد مسعود" للكاتب الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا لتحاول اقحام الوقع الفلسطيني بشقّية الأدبي والسياسي داخل المادّة السردية في الرواية.
 
فوليد الذي صنعه ابراهيم جبرا داخل الرواية هو رمز للنخبة أو بصورة أدقّ للمثقف، ورجل الأعمال، وكذلك المحبّ والعاشق.. وكلّ هذا لا يخرج عن إطار الوطنية أي رمز للوطني أيضا. إنّ فكرة المنفى الحاضرة في الرواية مثّلت نموذجا سرديا لتسليط الضوء على البنية السيكولوجية للشخصية الفلسطينيّة في الشتات. إنّ قوّة الدفع الفكري في رواية جبرا إبراهيم جبرا، تأسّست على مدى جهوزية تأقلم الشخصية الرئيسية وليد مسعود، من خلال ثلاثة محرّكات مركزية: المقاومة والحبّ والحياة. فترك وليد يختفي على الحدود تاركا سيارته، وفيها آلة تسجيل تحتوي على كاسيت يحمل ما يشبه الشهادة أو الوصية، إن لم يكن أثرا لغويا قائما على انتظار الفعل الحركي في الرواية.

 

ومن زاوية أبستمولوجيا يبدو هذا الفعل علامة على البقاء أو دعوة للعيش، إنّه حيلة سوفوسطائية نحاول رسم حدود بين الحدود، وهذا في حدّ ذاته كناية عن المشتتين العالقين بين التخوم، هؤلاء الذين أرغموا على ترك وطنهم تحتد تهديد السلاح، أو هاربين من جحيم حرب لا تبقي ولا تذر. فالقيمة الرمزية للهروب بما هو اتّجاه نفسي نحو بناء منفى عام وذاتي داخل الوجدان. ولو علمنا أنّ المنفى هو بغداد، خاصرة العروبة، وفقرة من فقرات العمود الفقري للوجع العربي، فاختيار ابراهيم جبرا لبغداد لم يكن اعتباطيا، فمن فلسطين لبغداد حكاية الوضع العربي المحكوم بالسليقة، إنّه استعادة التشكيل الفلسطيني بقيمته السردية في الرواية، وجمالياته قبل النكبة أو بعدها في أرض الواقع، فقد برزت لنا من فصول الرواية التي تشكّلات من اللبنات الاجتماعية التي كان يعيشها أجدادنا وأباؤنا والأجيال التي سبقتنا وعايشت النكسة والنكبة.

 

 undefined

 

فرواية ليلة البحث عن وليد مسعود، هي رواية الشتات الفلسطيني قلبا وقالبا، لكنّه شتات يتجاوز مفهوم المكان والزمان، حقيقته الموجعة ترتكز على خطّ تاريخي أساسه ديناميكية الأجيال، وكما تؤكد كافة النتاجات النقدية الخاصة بأدب الشتات الخالص من لعنة القومية أو العرقية أو الإثنية.. لهذا اندفع الكاتب نحو تبنّي خيار المقاومة وهو ما نجده امتدادا لشخصية فرحان مسعود والد وليد مسعود الذي ارتبط حضوره في الرواية مع قطاعات زمنية تعود لزمن الطفولة أي الماضي، لكن هنالك أيضا المستقبل المنصهر في شخصية الابن مروان الذي منحه الكاتب فعل الحب داخل الرواية، وبين شخصية فرحان الاب وشخصية مروان الابن يحضر وليد مسعود الذي يسرد أحداث طفولته بكلّ تجرّد، وبوجه خاص عندما يقرر الهروب من الواقع رفقة أصحابه، في كهف بهدف التعبد، إنّهم أصحاب الكهف.. هذا الهروب جاء رغبة في تحقير العالم، أي تحفيز أفعال من التواصل الوجداني القائم على النظرة الشمولية للعالم، غير أن تلك الحادثة أي الاعتكاف في الكهف أنتجت درسا مفاده أن هذا العالم هش، وليس كاملا بل لا يمكن أن يكتمل، وهذا ما يحملنا إلى قيمة الصراع الخفي بين قوتين متضادتين : قوّة تنطلق من الواقع، ولعل هذا يتصل بهول الشتات، وصدمته التي انبثقت واختبرت مبكرا عبر تلك الحادثة التي تحيل إلى التعلق بالماضي، وقوّة ثانية تنطلق من الحلم أي من الخيال الذي يطرح أسئلة المستقبل. هذه القوّتين أنتجتا بالمحصلة شخصية متفوقة ومعقدة.

 

ختاما، يمكننا القول بأنّ جبرا إبراهيم جبرا يقدّم من خلال هذه الرواية ليلة البحث عن وليد مسعود، صورة الفلسطينى الجنسية المثقف المثقل بالأسئلة الفلسفية والذي حقق نجاحات كبيرة اجتماعية ومادية لم تكن كافية لإخماد نار السؤال الأكبر: سؤال الوطن؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.