شعار قسم مدونات

نشوة المجد المنعكس.. لماذا نشجع فريق دون الآخر؟

مدونات - مجشعون تشجيع كرة القدم

لطالما أثار اهتمامي شكل تلك الجماهير التي تهتف بصوت عالٍ على مدرجات كرة القدم، وتدفع من المال ثمنا باهظا لحضور مباراة فريق معين، ناهيك عن الشتائم أو حتى التقاذف والتراشق والتصادم بين جمهور ومشجعي كلا فريقي كرة القدم المتباريين في ساحة الميدان، فقط لأن كل منهم ينتمي لطرف آخر.

  

اليوم ومع اقتراب نهائيات كأس العالم في روسيا قد أتفهم تشجيع الشخص لمنتخب بلده ضد منتخب بلد آخر، حتى ولو كان فضاً متعصبا (لحد ما طبعاً) بتشجيعه، أو حتى تشجيعه لنادي مدينته ضد نادي مدينة أخرى في مسابقات أخرى للأندية، ولكن وللخروج من إطار كل الاعتبارات القومية والوطنية، فإن الكلام سيكون عن مشجعي كرة القدم لفرق معينة، والتي لا تربطهم أي صلة بها لا من قريب أو من بعيد. في الحقيقة الأمر ينطبق على جميع الرياضات وليس فقط الأندية والمنتخبات، وحتى قد ينال الممثلين والمغنيين الذين قد نرغب بالتغني بأمجادهم فقط لأننا من محبيهم أو معجبيهم فالموضوع أكبر من أن يُدرج تحت صيغة رياضية فقط، لكن تبقى الرياضة وخاصة كرة القدم الأمر الأكثر بروزا ووضوحا فيما يخص الموضوع، لذلك هو ما أتناوله في هذا المقال.
   
في أيامنا هذه أكاد لا أرى أي شخص من معارفي أو أصدقائي دون فريق يشجعه من فرق كرة القدم، إلا القلة مثل بعض قراء الكتب وأصحاب الوقت الضيق لطبيعة عملهم، حيث أنني ومنذ مدة طويلة قد بدأت رحلة البحث في سبب تشجيعهم المفرط لفرق لا ينتمون لها. بداية لاحظت تأثير سلوك القطيع (Herd behavior) على الكثير من الناس لضرورة انخراطهم في تشجيع فريق معين (القطيع هنا هو جمهور المشجعين)، حيث أن الشخص يشجع فريق كرة قدم كما يفعل غيره، إما بإرادته حباً بخوض تجربة زملائه الذين يشجعون فريق معين، أو صدفة عند إعجابه بما يرى على الشاشة عند مرافقته لزملائه للمقهى في يوم المباراة، كما أنه يحقق رغبة داخلية نبحث عنها نحن كبشر، وهي المرحلة الثالثة من الاحتياجات النفسية على (هرم ماسلو): الرغبة في الانتماء لمجموعة والشعور بأننا جزء منها.

 

نشوة المجد المنعكس هذه هي السبب وراء تشجيع الفريق القوي من دون الضعيف، فهو من يضمن لمشجعه الفوز، ذلك الفوز الذي سيُكسب المشجع نشوة المجد، فلا أحد يغامر بتشجيع فريق ضعيف

لكن ماذا عن قيام شخص بتشجيع فريق غير الذي يشجعه أخوه أو أبوه في البيت؟ أو حتى فريق آخر غير الذي يشجعه زملاؤه في العمل؛ نظرية الحجاج (Argumentation theory) لها تأثيرها هنا، حيث أننا كبشر وبغريزتنا نحب أن نجد منافس بأي شيء، ومن ثم نحاجج ونجادل ذلك المنافس، لنثبت للطرف الآخر صحة قولنا، وبالتالي إثبات التفوق عليه، وبالتأكيد الرياضة هي الحلبة الأنسب لمجادلة طرف آخر لما فيها من أمور وحسابات قد تخالف التوقعات، غير أنها رائجة على درجة عالية، لدرجة جعلت أصحاب محلات الرهان تعتمد على الرياضة كمصدر رزق، فليست الرياضة كما الرياضيات مثلا، التي لن يجادل أي أحد بأن نتيجة جمع واحد وواحد هي اثنان، فالحسبة في الرياضيات ثابتة لا جدال فيها، لذلك هي مملة بالنسبة لمحبي الحجاج والجدل، وسيبقى نقاش شخصين أو مجموعتين على تشجيع فريقين مختلفين مادة دسمة وأشهى للوصول للجدال المنشود.

 
ولكن يبقى هنالك حلقة مفقودة، ألا وهو المكسب الحقيقي للتشجيع، فالتشجيع حقيقة هو مخسر مادي عند شراء التذاكر، وعند دفع ثمن الطاولة في مقهى، وعند دفع اشتراك لمحطات بث المباريات المشفرة، ومخسرة ومضيعة للوقت الذي كنا لنستغله في قراءة كتاب أو حتى القيام بجولة صغيرة مع العائلة والأصدقاء. في حقيقة الأمر المكسب موجود ولا يحتاج لشرح، فهو أكثر ما يمكن تشبيهه بمشاهدة فلم، فمن منا لا يحصل على الإثارة عند مشاهدة الأفلام؟ بالتأكيد الكل، الكل يحصل على الإثارة والمتعة والتشويق والترفيه من مشاهدة الأفلام، فالأمر ببساطة هو الرغبة في الحصول على تلك الجرعة من الأدرينالين عند الانفعال المرافق لمتابعة تلك المباراة؛ فالفلم ينتهي بمتعته بعد انتهائه، بل ويكون مملاً عند متابعته مرة ثانية، أما تشجيع الفريق يدوم ويكون في كل وقت، حيث كل مباراة أشبه بفيلم جديد لنفس البطل الذي نشجعه.

  undefined

 

يبقى هنالك سبب أخير وهو السبب الأعمق لذلك الانتماء، والذي يحمل عنوان هذه المقالة، إنه باختصار الرغبة بالحصول على المجد؛ ذلك المجد الذي نحصل عليه من شيء لم نقدمه ولم نجتهد به حقيقة، إنه أسهل وأسرع مجد يمكن لشخص أن يكتسبه وينتشي به؛ مجد أتى منعكساً من مجد شخص أو مجموعة أخرى كدّت واجتهدت وحصلت على المجد الحقيقي؛ حصلت على الفوز أو اللقب أو حتى الجائزة المالية، أما نحن فلا نحصل إلا على نشوة فوز ليس له عنوان إلا ثنيات وجوهنا الفرحة التي ترسم بسمات وضحكات وصيحات تخرج من حناجرنا مهللة بنصر مجيد؛ أما أصحاب المجد الحقيقيون فضحكاتهم وأهازيجهم لا تُرى ولا تُسمع كما يُرى بريق الكأس المرفوعة في سماء الملعب، واللمعات الخاطفة للميداليات الذهبية، التي ستحفظ في سجل ومتحف النادي لأجيال، كاتبة تاريخ مجد حقيقي لأجيال لاحقة.
 
نشوة المجد المنعكس هذه هي السبب وراء تشجيع الفريق القوي من دون الضعيف، فهو من يضمن لمشجعه الفوز، ذلك الفوز الذي سيُكسب المشجع نشوة المجد، فلا أحد يغامر بتشجيع فريق ضعيف احتمالية فوزه ضعيفة، إلا قلة قليلة جداً ونادرة. السؤال هنا، هل يحق لنا أن ننتشي ونفرح بهكذا مجد؟، مجد ليس لنا به أو منه شيء، مجد أشتريه بمال تذاكر الدخول للملعب، أو مال فك تشفير القنوات الرياضية، أو حتى ثمن طاولة في مقهى.
   
بالنهاية لا أحد يمكنه إنكار وجود نشوة في ذلك المجد المنعكس، فمن منّا يرفض الحصول على نشوة مفرحة سهلة المنال لا تحتاج منا سوى بضع صرخات وانفعالات على فرص ضائعة وأخرى غير ضائعة أمام مجموعة من الأصدقاء، إما ستفرح معنا بذلك المجد المنعكس لأنهم أنصار فريقنا، أو ستفرح بانتصارها على مشجعي الفريق الخاسر، الذي ربما قد يضطر بعضه للانسحاب حزنا أو الهجوم غضبا أو الغيض ووضع اللوم على المدرب أو الطقس أو الحكم أو غيرها من الأسباب، أو البعض الذي يتقبل الخسارة بروح رياضية؛ وأخيرا الصنف الأخير الذي يقوم بالتنصل من ذلك الفشل المنعكس (Cutting off reflected failure(CORFing لكي لا يشعر بأنه خسر رهانه الذي زج به للحصول على نشوة ذلك المجد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.