شعار قسم مدونات

حياتي مع القراءة.. وضرَّة زوجتي!

مدونات - رجل يقرأ قراءة

كل شيءٍ أتعبُ منه أتركه، إلاّ القراءة، أبقى مُتَسَمِّرًا في القراءة حتى إطباق الأجفان على العيون، تقول لي زوجتي ما قصتك مع الكتاب؟ لا أراك تفتُر عن القراءة يومًا ما، إلى هذا الحد أنتَ مُغرمً بها! فتقول لي مازحةً لَيْتَنِي ذلكَ الكتاب الذي تقرأهُ دومًا، فأقول لها ضاحكاً أنتِ مثل لوحة "الموناليزا"! جميلة ولكن لا تتغيرين، تبقين كما أنتِ متلألئة .
 
أمّا الكتاب، فهو يزيدُني علمًا، وثقافتًا، وإبهارنًا كُلما اقتنيته، لا يبخلُ عليّ بشيء، يُسافرُ معي في حلّي وترحالي، ينتشلُني من ضجري، ويُسليني في عُزلتي، يبقى قريبًا من أنفاسي، لا يسأمُ منّي، دائمًا يفتح لي الحياة على مصراعيها، إن طلبته لبَّا أمري، وإن هجرته لا يغضبُ منّي. يقول" محمد الرطيان" في إحدى وصاياه: "بإمكانك أن تتعرف على الكثير من الشخصيات الفريدة دون أن تراهم! بإمكانك أن تشعر بصقيع موسكو، وتشم رائحة زهور أمستردام، وروائح التوابل الهندية في بومباي، وتتجاذب أطراف الحديث مع حكيم صيني عاش في القرن الثاني قبل الميلاد! بإمكانك أن تفعل كل هذه الأشياء وأكثر، عبر شيء واحد: القراءة، فليكن دائماً هنالك كتاب جديد بجانب سريرك ينتظر قراءتك له".

   

زوجتي: أنتَ مريض!
أنتَ لا تتخيل ماذا يحدثُ لي عندما أرى الكتب مصفوفة في مكتبةٍ ما، شعور لا يوصف ،أشعُر أنَّي التصقُ بالمكان من فوري، إذ هناك علاقة وشيجة وتماهي في الروحين معًا

لا أتذكر أول كتاب قرأته، ولا يهمُني ذلك في شيء ،الذي أعرفه أنِّي مُتعلق بالكتاب منذُ الصغر ،كنتُ أقرأ أي شيء يقع تحتَ نظري، الكلمات، الحروف، النقاط ، تُغريني، تبعثُ فيّهَ السعادة، حتى لو كانت الكلمات تحوي بين أنفاسها الحزن والأسى، المهم أن أقرأ. في بداية زواجي كانت زوجتي كثيرًا يضيقُ بها ذرعاً، أنّي أجلس الساعات الطوال مُمْسِكًا الكتاب، ولا أخفي أنُه كانت تحدثُ بعض المُشاكسات اللذيذة، كانت تشعر أن الكتاب هو "الضرّة الثانية" حينها تذكرتُ شيخي الذي حكى لي ذاتَ يومٍ أنُه عندما يغضبُ من زوجتهَ، يقول لها سأذهب إلى ضرّتك، يقصدُ المكتبة، فتقول له إلاّ هذا المكان، ويضحك شيخي ملء شدقيهَ. 

  
كنتُ موقنا أنها ستتعود بعد ذلك على طقوسي وعاداتي، وسيبدو الأمرُ بعد ذلك اعتياديًا، وربما تنتقل لهَا العدوىَ، لكن يبدو أنّها مُحصنة مناعياً حتى هذه اللحظة! في يومًا قالت لي؛ سأبدأ في تزيين البيت وترتيبه لقرب العيد، وعدتُ إلى البيت فوجدتها تنتظرني وعلى وجهها مسحةٌ من ضيق، وأخذت تقول كل مكان في هذا البيت وجنباته، كتب حتى بين ثيابك! يبدو أنك مريض؟! فأجبتها ساخراً، يَا لَيْتَنِي لا أبرأ من مرضي حتى لا أجد الدواء! بعد ذلك، بدأت تتأقلم على الأمر رُوَيْدًا رُوَيْدًا، بل عندما أقرأ كتابا تأخذ الكتاب وتقرؤه إن أعجبها، وتضع بعض التعليقات عليه.

  

وقوفي أمام الكتب.. لحظة قدسية

أنتَ لا تتخيل ماذا يحدثُ لي عندما أرى الكتب مصفوفة في مكتبةٍ ما، شعور لا يوصف ،أشعُر أنَّي التصقُ بالمكان من فوري، إذ هناك علاقة وشيجة وتماهي في الروحين معًا، فلا أبرح المكان حتى أتاملهُنّ وأقف لحظة خشوعٍ، أمامَ هذا الكم الغفير من الكتب، وأحدّثُ نفسي ماذا لو تركوني في هذا المكان سنة أو سنتين أو قل ما شئت، عوضاً أنَّ دخول المكتبة بحد ذاتهَ دون تصفح أي كتاب له متعة سحرية فائقة. يقول ابن الجوزي متحدَّثاً عن الإمام أبي العلاء الهمذاني الحافظ "بلغني أنه رُئيَ في المنام في مدينةٍ جميع جدرانها من الكتب وحوله كتبٌ لا تُحدُّ وهو مشتغل بمطالعتها. فقيل له: ما هذه الكتب ؟! قال: سألتُ الله أن يشغلني بما كنتُ بما كنت أشتغل به في الدنيا، فأعطاني".

   

حياتهم مع الكتب.. وغرائب لا تنتهي!

وصل الشغف بالقراءة، والكتب، إلى أن قال الكاتب الأرجنتيني "بورخيس" في إحدى قصائده: "وأنا الذي تخيلت دومًا الجنة على شكل مكتبة". عاش عاشقاً للقراءة والكتب، وبسببهما أصيب بالعمى، كما تروي بعض الروايات". وهناك من قضى عمره في تصنيف الكتب، أو مُطالعتها، أو تلاوة القرآن، ومنهم من أوصى بدفنها معه في قبره، كحال الكاتب الإسلامي، جلال كشك، وهناك من هالت عليه مكتبته فقتلته! مثل الجاحظ، فقد ذكر ابنُ الوردي  في تاريخه في حوادث سنة 256 هـ أنَّ أبا عثمان الجاحظ الأديب المشهور وقعَت عليه مجلَّداته المصفوفة وهو عليل فقتلَته في المُحرَّم منه.

 undefined

  
يروي أنيس منصور في كتابه ذائع الصيت "في صالون العقاد كانت لنا أيام" حينما نشرت صحيفة الأخبار المصرية خبراً يفيد بأن عباس محمود العقاد سيتقاضى 200 جنيه عن تسجيل لقاء تلفزيوني، عاتبني العقاد، قائلاً يا أنيس "هل كثير على رجل كالعقاد قرأ 60 ألف كتاب، وأصدر 60 كتاباً، وأفنى عمره في عالم الفكر والفن أن يتقاضى هذا المبلغ؟ إن "مفعوصة" مثل نجاة الصغيرة تتقاضى ما هو أكثر من ذلك في 10 دقائق! يا مولانا إن بلداً يستكثر على العقاد مثل هذا المبلغ التافه لبلدٌ تافه، وصحافته أكثر تفاهة"! وشيخنا الإمام يوسف القرضاوي، حين قيل له: فلان هاجمَكَ فلم ترد عليه! فقال: كانَ ردي عليه بأن أصدرتُ كتابًا جديدًا وقد بلغت كتبه المئتان ونيف، وقد بلغ الشيخ من العمر تسعون عامًا، وما زال ممسكًا القلم، يكتب، ويؤلف، ويقرأ، وقد أصدر قبل أشهر قليلة كتاب "أخلاق الإسلام"، ويستعد لإصدار باقة جديدة من الكتب أيضا!

 
وقد قال أحدُ العاشقين -وهو الشيخ علي الطنطاوي "لقد جرَّبت اللذائذ كلَّها، فما وجدت أمتع من الخلوة بكتاب، وإذا كان للناس ميول، وكانت لهم رغبات، فإنَّ الميلَ إلى المطالعة والرغبة فيها هي أفضلها". وهناك أيضًا من كان يُضيّق على نفسه في معيشته من أجل شراء الكتب، ومُطالعتها. قال الأستاذ الشهيد سيد قطب يومًا للأستاذ وديع فلسطين وهو معه في سيارة أجرة كما أخبر عن ذلك الأستاذ وديع في كتابه "وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره": إنّني أقتّرُ على نفسي في معيشتي كي أستطيعَ شراء ما أحتاجه من كتب، ولو كان عليّ أن أختار بين شراء جورب عوضًا عن جوربي المثقوب وبين شراء كتاب، لفضّلتُ شراء الكتاب" .

 

الكتب أرواح بلا أجساد

 

undefined

 

فأنا أتخيلُ كل شيءٍ في هذه الحياة عبارة عن مكتبة! لا أطيق مكانًا بلا كتب، أو يومًا دون قراءة، أو ساعةً دون أن أتحسس كتابًا بيدي. الكتب عبارة عن أرواح تُكلمها وتتسامر معها، قد تُنشئ عُلاقة معها، تضحك مرة، وتُبكيكَ مرة أخرى، فأنتَ عندما تقرأ، تستنطق النصوص، وبالتالي إعادة إحياء شخوصهم، فتنشئ حياة ميتافيزيقية، يقول الفيلسوف نيتشة: "هُناك أناس يولدون بعد موتهم".

 
تخيل يرعاك الله، لو كان هؤلاء هم العلماء الجهابذة، والفلاسفة الأذكياء، والأدباء المُبدعون، والشعراء الحُكماء، حينها تجلس بين يدي الفيلسوف أبي حامد الغزالي وكتابه "إحياء علوم الدين" والأديب الأريب سيد قطب وكتابه "في ظلال القرآن" والعالم النحرير ابن تيمية "وفتاواه" الإمام النووي وكتابه "رياض الصالحين" ستكون في حديقة غنّاء، تطوف على كل هؤلاء، وتقطف من كل بستان زهرة.

   
وكما يقول الروائي الألماني "فرانز كافكا": أعتقد أنه يجب علينا فقط قراءة الكتب التي تدمينا بل وتغرس خناجرها فينا، وإذا كان الكتاب الذي نقرأ لا يوقظنا من غفلتنا فإذاً لماذا نقرأه أساسًا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.