شعار قسم مدونات

حسن البنا وإشكالية الدعوي والسياسي

حسن البنا.. بين دروع المريدين وسِهام الأعداء
حسن البنا (الجزيرة)
هناك صورة شهيرة لحسن البنا وهو بزي الجوالة، هذه الصورة كان وراءها فكرة.

استدعى البنا نموذجا تاريخيا وهو "الداعية"، وأعاد إنتاجه وقدم عبره فكرة الإسلام الشامل، على مستوى الفرد والحركة، الإسلام نظام عام يبدأ بالعقيدة ويمر بالسياسة والاقتصاد، والاجتماع، ولا ينتهي عند الكشافة. حاول البنا قدر المستطاع أن يقدم هذا النموذج على المستوى الشخصي، الكثيرون ممن اقتربوا منه، وفي مقدمتهم أخيه جمال البنا، أشاروا إلى تلك القدرات المتعددة.

ظهرت فكرة الشمولية كفكرة حركية بعد سقوط نظام الخلافة العثماني وفي سياق تغريبي وتبشيري يكتسح العالم الإسلامي، واكب ذلك صعود الدولة القومية القطرية، ونخب وقوى وطنية تحاول أن تسبغ على هذه الدولة منطقا علمانيا يفصل بين الدين والدولة. المفارقة التاريخية أن الدولة القومية القطرية الساطعة تقدم نفسها كنظام شامل، والجماعة التي خرجت إلى الحياة من مدينة الإسماعيلية بمصر تعرف نفسها تعريفا شاملا. وفي سياق الخبرة التاريخية، حينما تتقابل فكرتان تقومان بنفس الدور طبيعي أن يحدث بينهما تزاحم، وفي أحيان كثيرة تصادم. هذا الصدام لا علاقة له بأيدلوجية الدولة فقط بقدر ما هو مرتبط بفكرة الدولة القومية، وقد رأينا أوردغان وصراعه الشديد مع حركة الخدمة الشاملة على الرغم من التقارب بينهما بل والنسب الإيديولوجي والتاريخي معها، وكانت التهمة أنهم دولة داخل دولة، وفي جوهره صراع على احتكار الشمولية، وصراع الإخوان مع عبد الناصر كان شبيها بذلك، طبعا في حال كان للدولة عقيدة راديكالية تزداد وتيرة الصراع.

المزج غير الموفق بحسب ما أسماه الأستاذ طارق البشري بين الدعوي والسياسي، أدى إلى تصادم بين أخلاق السياسة وأخلاق الدعوة

والسؤال المطروح هل تطبع الجماعة علاقتها بالدولة القومية أم على الدولة أن تخضع لاعتبارات الجماعة الشاملة، بمعنى هل تقبل دولة ما كيانا هو طريقة صوفية وحزب سياسي وشركة تجارية ومدرسة تعليمية وهيئة دعوية، في حين الدولة الحديثة نفسها تحتكر ذلك النموذج الشمولي. والحقيقة إن كان من مراجعة قد يفرضها منطق الدولة القومية وطبيعة الصراع الجاري بينها وبين التيارات الدينية، فإن النموذج الشمولي الذي بناه البنا في فترة زمنية معينة يفرض نمطا من المراجعة المطلوبة، خصوصا العلاقة بين الدعوي والسياسي.

فالرجل رحمه الله اختار نموذج "الداعية والدعوة" ليقدم من خلالهما الفكرة الشاملة، وبالنسبة للسياسة نجده افترض أن العلاقة بين الدعوي والسياسي هو الذي يحقق الحضور المميز للعلاقة بين الدين والسياسة.  وبالمراجعة نجد أن البنا حينما اختار أن يقيم العلاقة بين الدين والسياسة من خلال الداعية، قد فرض على جماعته أن تتبنى نموذجا سياسيا لا يهدد فكرة الجماعة الدعوية، فالدعوة للإخوان هي القيمة العليا والسياسة هي وسيلة لتحقيق هذه القيمة، لذلك رفض فكرة السياسة الحزبية وهي بيت السياسة في الدولة القومية، لأن التحزب لا يتفق مع نمط الداعية، ولا مع نظام الجماعة، وحينما رحبت الأخيرة في مراحلها المتأخرة بالحزب كان كذراع أو كقسم مطور من الدعوة الأم. كذلك كان انتشار التسيس داخل الجماعة أو طغيانه على بعض شخصياتها يمثل عيبا تربويا عند البعض، ويعتبر من حظوظ النفس، وعادة ينظر للسياسيين داخل الدعوة بنظرة ريبة باعتبارهم الأكثر عرضة للفتن، فحب الظهور يقصم الظهور، وبقدر ما كان التسييس يكافح داخليا، بقدر ما كانت السياسة تتمدد خارجيا!

ونتيجة للربط بين الدعوي والسياسي ظلت برامجها السياسية مغلفة بالكثير بشعارات ذات الطابع أخلاقي أكثر منها برامجي أو انحيازي لمفهوم تنموي أو سياسي أو اجتماعي محدد، حيث كانت ترفع لافتات عن "الأيادي المتوضئة وإصلاح الدنيا بالدين"، ولا يقرون إلا نادرا بنواياهم في الوصول للسلطة ويعتبرون ذلك عيبا "نريد أن نحكم بالقرآن لا أن نحكم بالقرآن"، و"مشاركة لا مغالبة". لكن ما حدث فعليا أن هذا المفهوم الشامل على صعيد الممارسة السياسية لم يصمد، كان مغتربا فيما يبدو عن البيئة السياسية التي يسودها المنطق الحزبي، حيث فرض على الجماعة في إطار حركتها السياسية أن تأتلف وتختلف، ومطلوبا أن تقيم حسابات تلك المفاوضات السياسية في إطار لا يؤدي إلى خسارة في السياسي ولا تسرب في الدعوي، وهو ما مثل ربكة شديدة وضيق من هامش الخيارات والمناورات سواء على الصعيد الداخلي للحركة أو على الصعيد الخارجي مع المحيط السياسي.

اختار البنا أن يكون الداعية هو حامل الاتصال بين الدين والسياسة، ويبدو من المهم مراجعة هذه النظرية وأن تستبدل بأخرى
اختار البنا أن يكون الداعية هو حامل الاتصال بين الدين والسياسة، ويبدو من المهم مراجعة هذه النظرية وأن تستبدل بأخرى

وطوال خبرة ممارستها السياسية لازمها إجهاد توفيقي بين أخلاقيات الدعوة وأخلاقيات السياسة، وقد تفجر عن ذلك الكثير من الإشكالات وهذا نلحظه من بدايات عودة الحركة الإسلامية للعمل السياسي في الثمانينات حينما تحالف الإخوان مع حزب الوفد عدوهم التاريخي والإيديولوجي عام 1984، ومن ساعتها لم تخل انتخابات نقابية أو برلمانية من أسئلة وتوترات حول نمط التحالفات: هل يتقدم الجانب الأخلاقي في تقييم الأشخاص والهيئات أم يغالبه المنطق الذرائعي؟ كيف يتم تحديد الموقف من الطبقات الغنية هل بالاقتراب من منطق اليسار وينظر للنمط الاحتكاري الطبقي أم لليمين وتتبنى المنطق البرجوازي الليبرالي؟ أم تلزم المنطق الدعوي الذي قد ينظر لتلك الطبقات ويعطيها أحكاما أخلاقية مبسطة بسبب اتجاهها نحو التغريب على صعيد الملبس ونمط الحياة والسلوكيات فيقف ضدها أم ينظر للجانب الصدقاتي والاحساني الذي تلعبه في مساعدة الفقراء فيتحالف معها؟ لا أقول إن هذا التداخل كان حاضرا طول الوقت، لكنه كان مؤثرا معظم الوقت.

لكن إذا كان نمط التوفيق المجهد هو السائد، فإن حضور السياسي والدعوي معا، قد يجعل أحيانا السياسي يتسيد على الدعوي، ويستفيد من حضور الدعوة وويوظفها من أجل رصف الاصوات والتعبئة، فليس هناك ضمان أن تنزلق الأمور لتوظيف حيل العقل الشرعي، مع نفعية العقل السياسي للإكثار من الذرائع ولتبرير المواقف والسياسات، وهنا تبدو السياسة الدعوية في أعلى درجات البراغماتية.

حكي الأستاذة زينب الغزالي في كتاب "أيام من حياتي" عن رغبة صميمة في استئناف دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من جديد، عبر انتخاب قلة مؤمنة تُربى لثلاثة عشر عاما، تماثلا مع الفترة المكية

الحقيقة إن المزج غير الموفق بحسب ما أسماه الأستاذ طارق البشري بين الدعوي والسياسي، أدى إلى تصادم بين أخلاق السياسة وأخلاق الدعوة، فالأخلاق السياسية بالمعنى الحديث تعتبر السياسي الناجح هو الساعي إلى السلطة، والداعية الناجح أخلاقيا هو الزاهد فيها، ومن تقنيات السياسي أن يناور، ومن واجب الداعية أن يحاور، المكر والدهاء من أدوات السياسي.. والصدق والإخلاص من سمات الداعية. وهذا لا يعني أن يكون السياسي لا أخلاقيا، العكس هو الصحيح، فالسياسي الكاذب أو الفاسد أو المرتشي أكثر عرضة للفشل والخسارة وعادة تبنى الأحزاب الكبيرة رصيدها الشعبي على المصداقية والإنجازات وبالتأكيد السياسي الحزبي المتدين سيكون أكثر أخلاقية من نظيره غير المتدين.

إن الدعوي في انطلاقته نحو ممارسة السياسة، يعطل تقدم السياسي، ويجعله وسيلة، والحقيقة إن السياسة لا تنجح الا اذا اصبحت غاية لإقامة الفضائل الدستورية والقانونية، والسياسة الحزبية تحتاج أن تتحرك بآلية تصنع من داخلها، وقد لفت ابن خلدون إلى أن "العلماء من بين الناس أبعد عن السياسة ومذاهبها" ومولانا الحضرمي يتحدث عن رجال الشرع والفكر، وعلل ذلك لأنهم "يقيسون الأمور على اشباهها بما اعتادوه من القياس الفقهي"، وهو يعتبر أن النظر إلى السياسة بعقل الفقيه لاسيما في إطار القياس يورث "الغلط الكثير"، وإذا كان القياس الشرعي في السياسة يؤدي إلى هذا الغلط فما بالك بالقياس الحركي.

تحكي الأستاذة زينب الغزالي في كتاب "أيام من حياتي" عن رغبة صميمة في استئناف دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من جديد، عبر انتخاب قلة مؤمنة تُربى لثلاثة عشر عاما، تماثلا مع الفترة المكية، وعندما طالعت أوراق قضية مؤسس "جماعة المسلمين" شكري مصطفى وجدته يستخدم تعبير "الهادي الأول"، وهو الشخص المنتخب لإعادة إنشاء المجتمع الإسلامي الجديد.

اختار البنا أن يكون الداعية هو حامل الاتصال بين الدين والسياسة، ويبدو من المهم مراجعة هذه النظرية وأن تستبدل بأخرى، وتعود السياسة إلى بيتها وهي الأحزاب، وأن تؤسس العلاقة بين الدين والسياسة على مستوى السياسي لا على مقام الداعية، وفي إطار الحزب لا داخل باحة الجماعة، وانطلاقا من فكرة الدولة القومية، لا الأمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.