شعار قسم مدونات

11 عاماً على وفاتي!

blogs مخيم

كثيرة هي المواقف التي يمر بها الإعلامي خلال مسيرة عمله الصحفي والتي تحفر في الذاكرة وتترك أثراً في حياته إيجاباً أو سلباً، تلك الأحداث التي قد توقع تغيراً في نمط القادم من الأيام وتنعكس على من يعيشون في كنف الصحفي عائلته مثلا. التجربة الصحفية بكل تأكيد تُصقل بمثل هذه المجريات والمحطات، خاصة لمن أراد العمل في البحث والاستقصاء والتقارير والقصص الإنسانية التي تبحر في معاناة الناس ومشاكلهم، وتبحث عن حلها وإعادة الحق إلى أصحابه كأن تعيد الابتسامة لطفل أو امرأة مثلا.

 

كثير ما عاتبني صديقي على إقحام عاطفتي في مقالاتي حول معاناة اللاجئين الفلسطينيين، يلومني على مشاعري تجاه لاجئ هارب من الموت إلى الصحراء، كنت ولا زلت أؤمن بنظرية أن الصحفي لا يمكن أن يتخلى عن إنسانيته ولا أن يكون محايدا في أي موضوع خاصة إن كانت القصة مع معاناة أبناء شعبه.

 

إحدى هذه التجارب التي مررت بها خلال عملي الصحفي، كانت مع قضية فلسطينيي العراق وزيارة مخيم التنف الصحراوي بين الحدود السورية العراقية لأول مرة سنة 2007، زيارة مؤلمة بكل المقاييس ووضع انساني كارثي عاشه المئات من أبناء شعبنا الفارين من جحيم الموت في العراق إلى لظى الصحراء، استمرت المعاناة لعدة سنوات انتهت بعد ضغط إعلامي بإعادة توطين اللاجئين في دول أوروبا وأمريكا اللاتينية.

 

كالمعتاد فجر يوم الجمعة سنة 2007 توجهت إلى مكتب رابطة فلسطينيي العراق في مخيم اليرموك بدمشق للسفر إلى مخيم التنف، رأيت رجلا جاء مبكرا يتكئ على الحائط وتظهر عليه علامات الإرهاق ألقيت عليه التحية، ومن ثم انطلقنا إلى المخيم في رحلة تستغرق 4 ساعات في الحافلة.

 

أضع يدي على التابوت كأني من بداخله، أبكي بحرقة على محمد الذي توفي مظلوما وكيف تحول الفرح إلى ترح، كأنه ذهب إلى عائلته مودعا فلن يلقاهم بعد يومه هذا

لحسن الحظ جلس ذات الرجل بجانبي في المقعد، تعرفت عليه هو اللاجئ الفلسطيني من العراق محمد لطفي الشيخ خليل من سكان مخيم التنف ويعاني من مرض قصور الكلى، استمعت لجزء من قصته وحدثني عن اعتقاله في العراق على يد المليشيات الطائفية وتعذيبه الوحشي الذي أدى إلى مرضه والإفراج عنه مقابل فدية مالية وهروبه إلى سورية. ما ألمني أن محمد كان يسكن في مخيم اليرموك وزوجته وطفليه يعيشون في خيمة وسط الصحراء، كما قال لي أن وكالة الأونروا حصلت له على موافقة أمنية لدخول دمشق بحكم حاجته لجلسات غسيل الكلى.

 

في ذلك اليوم كان محمد سعيدا لأنه ذاهب إلى مخيم التنف لإحضار عائلته للعيش معه في مخيم اليرموك، تبادلنا أرقام الهاتف لمتابعة الحديث معه لتكون قصته من ضمن 24 حلقة من سلسلة الراصد لمعاناة فلسطينيي العراق كتبتها في مجلة العودة. وصلنا الحدود السورية العراقية وكانت عائلة محمد تنتظره على المعبر بكل شوق وفرح، تركتهم يتابعون إجراءات الموافقة الأمنية لدخول العائلة إلى دمشق، وانطلقت بين خيام اللاجئين استمع لمشاكلهم والتقط الصور لمعاناتهم بعيدا عن عيون.

 

انتهت الرحلة وركبنا الحافلة وبدأ السؤال من الجميع عن محمد وعائلته، أخبرونا أن الإجراءات لم تنته بعد وسيعود إلى دمشق مع فريق تطوعي أخر كان في زيارة للمخيم، غادرنا مخيم التنف على أمل اللقاء به قريبا في مخيم اليرموك. عصر يوم السبت يرن هاتفي إنه محمد البخوري رئيس لجنة مخيم التنف يبلغني أن محمد الشيخ خليل أصيب بحالة شلل ووضعه حرج بعد منعه من دخول دمشق برفقة عائلته، بقي على هذه الحال لساعات وبعد تدخل من رابطة فلسطينيي العراق سمح له بالدخول الى دمشق بسيارة إسعاف لكنه كان متوفيا رحمه الله.

 

بدأت بكتابة خبر صحفي عن الوفاة وكنت في حالة من الذهول، ثم أرسلت خبر استشهاد اللاجئ محمد الشيخ خليل على الحدود السورية العراقية بعد منعه من دخول سورية رغم حصوله على موافقة أمنية إلى العديد من المواقع الإخبارية الفلسطينية، وهذا الأمر كان من الممكن أن يتسبب بسجني، حيث كنت أضع اسمي على جميع الأخبار والتقارير التي أعدها حول مخيم التنف. ثم ذهبت برفقة الأستاذ ثامر مشينش رئيس رابطة فلسطينيي العراق إلى مشفى حرستا العسكري لاستلام جثمان الشهيد الذي وصل في ساعة متأخرة فجرا، ليقضي ليلته الأخيرة في ثلاجة الموتى حتى صباح الأحد.

 

الساعة 8 صباحا من يوم الأحد توجهنا من جديد إلى منطقة المرجة في دمشق لاستخراج الموافقات المطلوبة لاستلام الجثمان ودفن الشهيد وكانت الأمور ميسرة لكن ببطئ، حتى استلمنا الجثمان مع حلول العصر. في سيارة دفن الموتى كنت وحيدا إلى جانب الجثمان، أضع يدي على التابوت كأني من بداخله، أبكي بحرقة على محمد الذي توفي مظلوما وكيف تحول الفرح إلى ترح، كأنه ذهب إلى عائلته مودعا فلن يلقاهم بعد يومه هذا، توفي محمد دون أن تلقي عائلته عليه نظرة الوداع وحتى لم تشارك في جنازته، لم يسمح لهم بدخول سورية بعد.

 

تثير لدي هذه الجزئيات مشاعر الحنين إلى حيث ولدت وترعرعت، لكني أغبط محمد رحمه الله أنه لم يفارق جسده تراب مخيم اليرموك
تثير لدي هذه الجزئيات مشاعر الحنين إلى حيث ولدت وترعرعت، لكني أغبط محمد رحمه الله أنه لم يفارق جسده تراب مخيم اليرموك
 

شعبنا الفلسطيني أصيل، وصلنا إلى جامع الوسيم في مخيم اليرموك وإذا بالجموع تنتظر لتشييع الشهيد، صلينا العصر والجنازة وانطلق موكب مهيب يزف محمد الشيخ خليل إلى مقبرة اليرموك الجديدة حيث يرقد هناك إلى يومنا هذا رغم القصف الذي تعرضت له المقبرة في أتون الأزمة السورية. عدت إلى منزلي لأخذ قسطا من الراحة ثم بحثت في مواقع الانترنت والصحف عن خبر وفاة محمد، فوجدت بيانا لوزارة شؤون اللاجئين في قطاع غزة حول الحادثة يذكر أن المعلومات نقلا عن الصحفي ماهر حجازي، كما رصدت بعض الأخبار في مواقع الكترونية مختلفة.

 

بعدها توجهت إلى ساحة مسجد الوسيم مجددا حيث أقامت الفصائل الفلسطينية مجلس عزاء للشهيد، وما أن وصلت إلى باب خيمة العزاء وإذ بصديقي أبو ياسر ينادي علي:" فضائية الأقصى كاتبين في شريط الأخبار على الشاشة استشهاد اللاجئ الفلسطيني ماهر حجازي في مخيم التنف الحدودي بين سورية والعراق"، لم أستطع الا أن أبتسم. لحظات وبدأت الاتصالات على هاتفي من كل حدب وصوب الجميع يريد التأكد من الخبر، حتى أن صديقي أبو يحيى لم يصدق أنه يتحدث إلي كان يقول:"ماهر أنت ماهر".

 

اتصلت بمراسل قناة الأقصى في دمشق وقتها الزميل صادق أبو عامر وأبلغته بالموضوع واعتذر نيابة عن القناة، وبعد ساعات عدت إلى المنزل فوجد الخبر لا يزال في شريط الأخبار ويذاع في النشرات. فعلا هذا الموقف من الأحداث التي لا تنسى، لا أعلم بماذا كان يفكر المحرر في غرفة أخبار القناة في ذلك الوقت، لكن تجربة تعلمت منها الكثير سواء على المستوى الإنساني أو الإعلامي، حتى أنني تذكرت تفاصيل كثيرة في سياق المدونة بالحديث عن جزئيات مهمة في مخيم اليرموك الذي مُحي اليوم بفعل آلة الحرب السورية. هذه الجزئيات أثارت لدي مشاعر الحنين إلى حيث ولدت وترعرعت، لكني أغبط محمد رحمه الله أنه لم يفارق جسده تراب مخيم اليرموك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.