شعار قسم مدونات

أردوغان.. حسن البيان وحكمة لقمان!

blogs أردوغان

الخطابة لها في الإسلام منزلة كبرى، ففي عصر قريش استخدمت الدعوة الوليدة الخطابة كأحد أهم أساليب نشرها بين الناس، فعندما انتقلت الدعوة من المرحلة السرية إلى المرحلة العلنية، كانت (خطبة الصفا) حينما نزلت: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، فخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ: "يَا صَبَاحَاهْ!" فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟" قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا. قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" قَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ! مَا جَمَعْتَنَا إلا لِهَذَا؟ فَنَزَلَتْ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (أخرجه البخاري: 4589).

ولم يعبأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم – بكلمة أبي لهب وأكمل خطبته، وكانت الخطابة موجودة قبل الإسلام، مشهورة عند العرب لكن الإسلام جعلها في مرتبة متقدمة إذ جعلها من الشعائر التعبدية فلا تصح صلاة جمعة بدونها، وقد أقر الإسلام بعض أغراض الخطابة التي كانت موجودة في الجاهلية مثل الخطابة من أجل الزواج والصلح، والحث على القتال، والأغراض السياسية، ولكن الفارق كما ذكر ابن خلدون في مقدمته (الجزء 3 من الصفحة 1315 إلى 1316) أن كلام العرب الذين أدركوا الإسلام قد فاق كلام الجاهليين، في الشعر، وفي النثر بأنواعه من خطابة وكتابة ومحاورة ونحوها، وأن ذلك كله قد أتى أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من منظوم الجاهليين ومنثورهم، ثم قال:

والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة، والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث، اللذيْنِ عجز البشر عن الإتيان بمثليْهما، لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية، ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نَظْمهم ونثرهم أحسنَ ديباجة وأصفى رونقا من أولئك، وأرصف مبنى وأعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة، وتأمّلْ ذلك يشهدْ لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والتبصّر بالبلاغة.

تظهر مهارة أردوغان في الخطابة عندما يتحدث بدون النظر في ورقة معتمداً على قريحته، حيث يوزع النظرات على المستمعين بلغة جسد غاية في الإتقان والبراعة مستخدماً الاستشهادات الإيمانية

وحديثنا اليوم عن خطيب مفوه لطالما حركت كلماته الجماهير وفعلت عباراته في الظالمين فعل الأعاصير، إنه خريج مدارس الأئمة والخطباء، إنه الطيب رجب طيب أردوغان. عقب سقوط الخلافة العثمانية وقيام الدولة الأتاتوركية العلمانية القبيحة، صدر قانون توحيد التعليم الذي نص على أن تصبح جميع المؤسسات التعليمية في البلاد بيد الدولة، وباسم هذا القانون أغلقت كل المدارس التابعة للأوقاف الإسلامية وأوقاف الأقليات الدينية، وحدث شد وجذب داخل المجتمع التركي وظل هذا الشد والجذب حتى جاء عام 1950 فعادت هذه المدارس بعد فوز حزب الديموقراطية وهو الحزب الذي أخرج عدنان مندريس أحد أيقونات النضال التركي ضد الظالمين.

ورغم عودة مدارس الأئمة والخطباء إلا أنها لم تسلم من المضايقات. في ظل هذا الجو تلقى أردوغان تعليمه حتى حصل على الثانوية من مدارس الأئمة والخطباء، هذا الشاب الذي ينتمي إلى أسرة فقيرة تسكن حي قاسم باشا أحد أفقر أحياء اسطنبول، ولم يخجل أردوغان هذا الشاب المبارك من العمل كبائع سميط (أحد أنواع الخبز التركي، وهو خبز دائري، يكون عادة مرصع ببذور السمسم) وواصل الشاب المبارك دراسته والتحق بمعهد علوم الاقتصاد والتجارة، والذي صار بعدئذ كلية الاقتصاد والتجارة بجامعة مرمرة ليتخرج منه في العام 1981 ويبدأ عمله موظفاً في البلدية، وظل وفيّا لمدارس الأئمة والخطباء حتى أنه ألحق أبناءه الأربعة بها، ثم أكملت ابنتاه الدراسة خارج تركيا لئلا يتخليْا عن الحجاب ، لوجود قانون يمنع الحجاب في الجامعات.

تظهر مهارة أردوغان في الخطابة عندما يتحدث بدون النظر في ورقة معتمداً على قريحته، حيث يوزع النظرات على المستمعين بلغة جسد غاية في الإتقان والبراعة مستخدماً الاستشهادات الإيمانية مما جعله عرضه لبطش السلطة العلمانية المتغولة والمتربصة بكل ما هو إسلامي فكانت لأردوغان محن ثلاث مع السجن:

* المحنة الأولى: بعد انقلاب 1980 أو ما يعرف بانقلاب كنعان إيفرين، وسجن أردوغان لمدة أيام بتهمة التظاهر في ظل الأحكام العرفية.

* المحنة الثانية: حين دخل في اشتباك لفظي مع رئيس المجلس الانتخابي لمحليات باي أوغلو إذ اتهمه أردوغان بالسُّكْر الذي أدى إلى التلاعب في النتائج فاتهمه بالتعدي عليه فحوكم وسُجِن لمدة أسبوع وكان ذلك في العام 1989.

* المحنة الثالثة: بعد واقعة أبيات الشعر الشهيرة التي ألقاها ضمن خطاب شعبي في ديار بكر -(12 ديسمبر 1997م) قبيل أيام من حل حزب الرفاه- والتي اعتبرها خصومه دينية تحريضية، فحكم عليه بالسجن لعشرة أشهر وغرامة مالية، ثم خفف فسُجِن لأربعة أشهر.

ومن أشهر المواقف للزعيم أردوغان والتي ظلت محفورة ليس في ذاكرة الشعب التركي فحسب بل في ذاكرة كل محب للعدل باغض للظلم، موقف تحلو لي تسميته (صفعة على وجه الصهيونية في دافوس): أترككم مع هذا التفريغ لتقرير مسجل تم بثه على قناة الجزيرة يصور الواقعة تصويراً دقيقاً للغاية.

undefined

نبيل الريحاني: مشهد اعتادت دافوس على تنظيمه كل سنة، زعماء من مختلف البلدان يلتقون لتطارح هموم السياسة والاقتصاد والاجتماع لكن هذه الجلسة شهدت موقفا خرج عن المألوف ستحتفظ به ذاكرة الكثيرين أتراكا وعربا ومسلمين غربا وإسرائيليين.

 

الجالسون إلى الحوار الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بيريز يشرح وجهة النظر الإسرائيلية في الحرب على غزة يطيل في تبرير مقتل المئات موجها نظراته إلى أردوغان بين الحين والآخر، الكل ينصت وأردوغان يأخذ الكلمة ليرد على كلمات بيريز وإيحاءاته.

رجب طيب أردوغان/ رئيس الوزراء التركي: سيد بيريز أنت أكبر مني سنا وتحدثت بصوت عال جدا وأعلم جيدا أن ارتفاع صوتك بهذا الشكل هو تعبير عن نفسية متهم، لكنني لن أتحدث بصوت عال مثلك، واعلم هذا جيدا. عندما نأتي للحديث عن القتل أنتم تعرفون القتل جيدا، أنا أعلم جيدا كيف قتلتم الأطفال على الشواطئ في غزة، في إسرائيل اثنان من رؤساء حكوماتكم قالوا لي واحدا من أهم التصريحات وهو "عندما ندخل إلى الأراضي الفلسطينية على ظهر دباباتنا نشعر بسعادة غريبة" عندكم رؤساء حكومات يقولون هذا الكلام وأستطيع أن أعطيكم أسماء هؤلاء لا تقلقوا، وأنا ألوم الذين صفقوا لهذا الظلم لأن التصفيق لقتلة الأطفال وقتلة البشر باعتقادي هو جريمة إنسانية أخرى. في هذا المكان لا نستطيع إغفال الحقيقة، أنا دونت الكثير من النقاط لكن ليس لدي الفرصة لأجيب عنها، فقط سأتحدث عن نقطتين.

(مقاطعة): سيدي رئيس الوزراء لا نستطيع العودة إلى البداية لو سمحت لي..

رجب طيب أردوغان (مقاطعا): لا تقاطعني. في المادة السادسة من التوراة تقول "لا تقتل" لكنكم تقتلون.

(مقاطعة) رجب طيب أردوغان: أنا أشكرك جدا، أشكرك جدا، بالنسبة لي لقد انتهى دافوس، لن أعود إلى دافوس مرة أخرى واعلموا هذا جيدا. أنتم لا تفسحون لي في المجال لكي أتكلم، بيريز تحدث لـ 25 دقيقة وأنتم سمحتم لي بالتحدث لـ 12 دقيقة وهذا لا يجوز.

نبيل الريحاني: عمرو موسى المتابع في صمت للمواجهة يقوم لتحية أردوغان المغادر الغاضب، لحظة ارتباك عاشها موسى قبل أن يدعوه بان كي مون للجلوس مجددا. موقف مشبع بالرمزية سرعان ما وصلت أصداؤه إلى الشارع التركي، الآلاف يتدفقون إلى المطار لاستقبال من يرونه بطلا دافع عن مشاعرهم الدينية والقومية ولم يبع معاناة غزة وأهلها ولو بمجرد الصمت. لم يقف أردوغان عند هذه المحطة، لمعركته مع حكام تل أبيب وسياساتهم بقية.

وهناك الكثير من المواقف التي حركت فيها كلمات أردوغان الوجدان، فقد خرج الشعب لمواجهة انقلاب 15 يوليو 2016 بعد حديث أردوغان الذي كان له مفعول السحر. في وسط كل هذه الفتن والمحن استطاع أردوغان وفريقه الخروج بتركيا من عصر التخلف والانحطاط إلى عصر عودة تركيا القوية بحكمة تضاهي حكمة لقمان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.