شعار قسم مدونات

حافظوا على ملاعق الذهب..!

مدونات - امرأة تسوق ثراء

في قلبِ كل إنسان طفلٌ، يدعوه إلى حياةِ الطفولةِ والعفويةِ والانطلاق نحو السعادةِ، عبرَ تحطيمِ قيودِ البريستيج ومظاهرِ ما تُسمى "بالشخصياتِ الاعتبارية" تلك المظاهر التي تقتلُ إنسانيةَ الإنسان، وتحدُ من حيويته؛ فتفقده تدريجيًا بريقَ وجهه، وتُحوله إلى عقيمٍ في لغةِ الترفيهِ واللعبِ والمرح؛ فينأى بنفسه عن الإنبساطِ؛ مقنعًا نفسه بأن في المنعِ حماية لهيبته..!

  
قلة قليلة تُدرك أن بين الحفاظ على الهيبةِ والتصنع خيطٌ رفيع، فلِمَ لا يكون الإنسان بسيطًا في تفاصيلِ حياته، بصرفِ النظر عما وصلَ إليه من مكانةٍ مرموقةٍ في المجتمع، بسيط إلى الحدِ الذي لا يخدشُ رونقَ شخصيته، وإلى الحدِ الذي يُشعره بأنه كباقي البشر، يُمارسُ طقوسه اليومية، دونَ أن يشعرَ بأن هناك من يُراقبُ تصرفاته وتحركاته، فحتى لو كان هناك من يُراقبها، يُصرُ على أن يتعايشَ مع واقعه كما يُحب هو لا كما تُمليه عليه قناعاتُ(الأبراج العاجية وساكنيها)أولئك الذين يظنون أنهم وُلدوا أقمارًا، ولا يُجبُ أن يعيشوا حياةً عاديةً كما يعيشُها أهل الأرض من البشر!..

 
فمن قال أن من استحقاقاتِ العائلة المالكة أو الثرية أن ينصرفوا عن عوالم العامة، ويفرضوا على أنفسهم طقوسًا جبارة من التعليماتِ الصارمة، عبر مبادئ وأفكارَ يضعونها وكأنها(قرآن) بحيثُ يكونُ لهم دولة خاصة يُمارسون فيها طقوسهم الاجتماعية بعيدًا عن أعين الخليقة، ومن قال أن هذا أمر طبيعي يفرضه طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين المشهور وجمهوره، وبين الوزير وعامة الناس.. إلخ..

 

هل يظنُ هؤلاء أن السعادة تأتي حينَ يُنكرون على أبنائهم أن يشقوا طريقهم بأنفسهم، ليبنوا أنفسهم؟
هل يظنُ هؤلاء أن السعادة تأتي حينَ يُنكرون على أبنائهم أن يشقوا طريقهم بأنفسهم، ليبنوا أنفسهم؟
 

متى يتعلمُ الناس كل الناس أن أصل الهيبةِ يكمنُ في البساطة، تلك البساطة التي يشيعُ على إثرها المحبة بين قلوب الناس، إلى متى سيبقى(أسرى النرجسيةِ) سجناء لدى وهم النجوميةِ؛ فيعيشون حياتهم بلا طعمٍ ورائحة، لأنهم شيدوا جدارًا عازلاً بينهم وبين الآخرين، جدار عازل يقول لهم "لكم الكوخ ولنا القصر"؟؟ هل يظنُ هؤلاء أن السعادة تأتي بإتباعِ سلوكٍ صارمٍ من التعقيداتِ التي تُملي عليهم أن يسيروا باستعلاء، كأنهم يقولون لمن يشاهدهم "خُلقنا أغنياء وأبناء أكابر، وخلقتم أنتم لتنظروا إلينا بشيءٍ من التمني كأن تقولوا ليتنا نحظى بشيءٍ مما تحظون به"..!

 
هل يظنُ هؤلاء أن السعادة تأتي حينَ يُنكرون على أبنائهم أن يشقوا طريقهم بأنفسهم، ليبنوا أنفسهم، فتراهم يُصرون على أن يُبصروا النور وملاعق الذهب في أفواههم، فما أن يكبروا حتى يجدوا مستقبلهم مضمون مليون في المائة من كل النواحي، فقد أغلقوا كل ثغرةٍ ماديةٍ قد تحولُ دون إتمامِ فرحتهم، لكنهم لم ينتبهوا إلى الثغراتِ الأهم والمتمثلة في التأهيل المعنوي والروحاني والاجتماعي، لم يكترثوا لتعليمهم مبدأ الاعتماد على النفس، والتجربة، كأنهم خافوا عليهم أن تتعبَ أرواحهم إذا ما هموا بإنجازَ أي مهمةٍ بأنفسهم، فما أنجزوا ما أنجزوا ولكن أهاليهم أنجزوا عنهم، وما حققوا ما حققوا ولكن والديهم حققوا نيابةً عنهم؛ وإذا ما وقعوا في إشكاليةٍ ولو بسيطةٍ لا يعرفون حلها إلا إذا استعانوا بأهاليهم..!

 
من وُلدَ غارقًا في الملذات والماديات، سيبقى أسيرًا لها، مالم ينتبه أهله إلى آليةِ تربيته تربيةً سليمة، مستندين في ذلك إلى أهميةِ الإحساس بالآخرين، ذلك الإحساس الذي يقودهم إلى دمجهم بين أقرانهم، بهدفِ التعلمِ والتعليم والتأثر والتأثير، بل إن الأهم في نظري أن يحبسَ الأهلُ عن ابنهم المُرَفه جانبًا من النعمِ، بهدفِ تعزيزِ ثقته في نفسه، كأن يُحفزوه ليُنتجَ شيئًا من بناتِ أفكاره؛ فإن نجح في ذلك يكافئوه بشيءٍ يُحبه، فمنطق البعض لا أريدُ لابني أن يتعبَ مثلما تعبتْ، وأريدُ أن أوفرَ له كلَ ما يلزمه وما لا يلزمه، منطقٌ أحمق، يجعلُه مع الزمن إنسانًا معدوم الشخصية، فارغ المضمون، اتكاليًا لا عصاميًا، مستهتر بقيمةِ ما حققه أبوه من ثروة، يُضيعها على أمور تافهة، كما لا يتوانى في الاستعلاء على أقرانه، فيُصبحُ خطرًا على المجتمع، مثلُ هذا النوع من الأبناء علينا أن نُحاصره قبل أن يتكاثر، وهذا يتطلبُ أن نقتلَ سبب المشكلة الأساسية النابعة من حرص الأهل الزائد على توفيرِ(لبن العصفور) لأبنائهم وجلبِ المستحيل لهم، دون أن يحموا حرصهم بخطط عملية وجدية وتنموية وإرشادية.

  undefined

  

فالاهتمام المادي على حسابِ الجوانب الأخرى، غالبًا ما يُنجبُ شخصيات مهزوزة مجتمعيًا، شخصيات تحتمي بالمادة، وتغترُ بالظاهر، وتنخدع بما يُسمى (بالبرستيج) فالغنى الفاحش كثيرًا ما يضرُ بأهله ما لم يُحمى بالتربيةِ والتهذيب، مالم يُقوى بالتعامل الحسن مع الآخرين، فهذا الفقير ابنُ ذلك العامل البسيط قد يكونُ أحبُ وأجمل وأعز إلى الله من الابن الذي لا صيتَ له إلا صيتَ أبيه، فإذا ما رحل أبوه ورحلتْ ثروته، أصبح بلا قيمةٍ وبلا مضمون..

 
إلى المشاهيرِ والطبقات الراقية، إلى كل الميسورين والأغنياء حافظوا على ما أنعمه الله عليكم، بالحفاظِ على مشاعر الآخرين من العامةِ والبسطاء، وتذكروا من تواضع لله فقد رفعه، وحاولوا أن تمارسوا طقوسكم اليومية، دون لعنةِ ما تصفونها "بتطفلِ" الناسِ على حياتكم الخاصة، فهي وإن كانتْ موجودة، فإن سعيكم لإثباتِ أنفسكم بأنكم بالأساس بشر مثلكم مثلهم، ستتلاشى تدريجيًا، تذكروا أنكم جزء من أصل المشكلة، وكيف لا تكونون جزء فيها وأنتم من تمشون في الأرض مختالين فرحين بأن أنظار الجميع مصوبة نحوكم، فيما تعاليكم على من تظنون أنهم (أقل) منكم مكانة وقدرًا تبدو واضحة في لهجةِ خطابكم وتعاملكم معهم..

 
لطفًا تذكروا أن كلكم من طين، وكيف للطين أن ينسى أصله ويتكبر، الحياة أجمل بالتواضع والبساطة، بالتركيز على الجوانبِ المعنويةِ كما تركزون على الجوانب المادية، مع كل التقدير لأصحاب الذوق الرفيع والمقام العالي أولئك الذين أتقنوا فن البساطة؛ فجمعوا بأناقة بين حب المادة وحب الناس؛ فرقَقوا أرواحهم أكثر، وكانوا إنسانيين بامتياز..!

 
لا لبرستيجٍ مصنوعٍ من الغرور والعجب، نعم للحفاظِ على المادةِ وملاعق الذهب، بالتعامل الأنيقِ وحسن الأدب مع كل البشر…!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.