شعار قسم مدونات

القرآن في رمضان.. بين سؤال الختم والتدبر

مدونات - قرآن

كانت العرب قديما تسمي الأشهر حسب الأزمنة التي هي فيها، فوافق شهر رمضان وقت اشتداد الحر، فأخذ اسمه من الرمض أي شدة العطش. وبمجيئ الإسلام تبوأ هذا الشهر مكانة رفيعة وأصبح من أمتن شعائر الدين الحنيف فوقع ذكره في القرآن الكريم في قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وعليه فقد ورد في أرجح التفاسير أن هذا الشهر أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان، ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليه.

 

ويعتبر رمضان من أعظم الأشهر عند الله وعند الناس، لما فيه من مراجعة للنفس وتصحيح للمسار النفسي والجسدي والروحي. ففيه يتسابق الناس إلى الخيرات. وتطمئن فيه النفوس اطمئنانا عجيبا، وتتغير فيه الطباع الحادة والقلقة. ويعتبر هذا الشهر الفضيل محطة مهمة لمن أراد تغيير ما في نفسه، والبدء في مرحلة قد تكون مختلفة تماما عما سبقها، ففيه تتغير عادات الأكل والنوم ويزيد العبد إقبالا على ربه. وتكثر فيه الطاعات دون ملل أو ثقل. فكثير ممن هجر الصلاة عاد إليها فيه، وكم من غافل عن الذكر تذكر وأكثر، وما أكثر الذين وجدوا ضالتهم في مصحف يأنسون به، يقرؤون بشغف آيات الله ويتلونها آناء الليل وأطراف النهار.

تلك القراءة البصرية السريعة مع ما يمتلكه الإنسان المعاصر من ذهن سابح في التفكير الدنيوي والغفلة لن تحقق الغرض. لن تجعل منك مخاطبا بل ربما قد تجد نفسك تقرأ ولا تعي ما قرأته

ولا نكران أننا دائما نسأل أو يسألنا غيرنا كم مرة ختمت القرآن في رمضان؟ فكان السلف إذا أقبل عليهم شهر رمضان قاموا بطي الكتب ورفع الأقلام والمحابر وقالوا هذا شهر القرآن. فلا ينشغلون بغيره ولو كان علما شرعيا. وكان ذاك شأنهم معه يعظمونه ويتدبرونه غاية التدبر، وكان الرجل منهم يقرأ الآية فتبكيه. والأخرى فتبشره. ولا يغادرها إلا إذا استيقن أنها أخذت مستوطنها من قلبه وجوارحه. فهذا سفيان الثوري: إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن. فكانت القراءة تدبرا والختمة عظة، فقد يقرأ الواحد منهم سورة واحدة تغير في نفسه الكثير. فالقراءة حينذاك وسيلة وليست غاية في ذاتها.

لأجل ذلك يحرجني السؤال كم مرة ختمت؟ لأنني أختم مرة واحدة فقط في رمضان. إذا طبقت مقاربة الغاية والوسيلة، والأخذ بعين الاعتبار ما يتطلبه التدبر من عمل وتطبيق، وأيضا من شروح وتفاسير لبعض الألفاظ. وأسباب النزول. ليكون القارئ بعد ختمته تلك ثقافة دينية واسعة تمكنه حقا من تغيير ما في نفسه. أما عن تلك الختمات الكثيرات. ففي قراءة القرآن بركة حتى لا يفهم كلامي فهما خاطئا. لكن قبل أن يبدأ العبد في أي عبادة بما فيها القراءة. عليه أن يخرج بقلب غير الذي دخل به.

 

فجربت قبلا أن أقرأ بطريقة تشبه هذه (الختم أكبر عدد ممكن والقراءة السريعة دون تدبر) والنتيجة هي أنني أجيب بكل فخر حين أسأل ذاك السؤال البائس: لقد ختمت ست مرات! لكن ماذا عن العمل بما جاء في الوحي؟ كيف كانت أخلاق النبي هي القرآن؟ كيف تكون محمدي الأخلاق؟ كيف يصل القرآن إلى تلك الروح العطشى إذا لم تعتبر نفسك مخاطبا بتلك الكلمات العظيمة. فقد روي عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها في النهار".

 صحيح أنك حين تكثر من عدد ختماتك ستحس بأنك على الطريق الصحيح وهو كذلك. لكن عليك ألا تنسى الغاية الأعظم وهي التدبر والتفكر
 صحيح أنك حين تكثر من عدد ختماتك ستحس بأنك على الطريق الصحيح وهو كذلك. لكن عليك ألا تنسى الغاية الأعظم وهي التدبر والتفكر
 

الواقع أن تلك القراءة البصرية السريعة مع ما يمتلكه الإنسان المعاصر من ذهن سابح في التفكير الدنيوي والغفلة لن تحقق الغرض. لن تجعل منك مخاطبا بل ربما قد تجد نفسك أحيانا تقرأ رأي العين ولا تعي ما قرأته للتو. وربما قد تحصي عدد الصفحات التي بقيت لك لتكمل تلك السورة أو تلك. فعن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: (لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين الفاتحة إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره وما ينبغي أن يقف عنده منه، ينثره نثر الدقل!). الدقل – أي التمر الرديء.

هذا هو حال الغالبية للأسف. الغاية هي أكبر عدد من الختمات. صحيح أنك حين تكثر من عدد ختماتك ستحس بأنك على الطريق الصحيح وهو كذلك. لكن عليك ألا تنسى الغاية الأعظم وهي التدبر والتفكر في الآيات والمشاهد القرآنية التي تزيد من ثبات قلبك في زمن أصبح فيه الثبات ضربا من الأحلام. فوقتنا تتقاسمه الأشغال اليومية والمعوقات ضف إليها ما تعرضه الدراما الرمضانية من برامج، لديها جمهور عريض. تستهوي بكل ما للكلمة من معنى. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لا تهذوا القرآن هذَّ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة)، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كنا نحفظ العشر آيات فلا ننتقل إلى ما بعدها حتى نعمل بهن) وروي عنه أنه حفظ سورة البقرة في تسع سنين. فأين نحن منهم؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.