شعار قسم مدونات

جزية مضادة!

مدونات - ترمب

في المدن الترفيهية لم يدفع المالكون كل هذه المبالغ الضخمة فقط من أجل الأهداف النبيلة، ولا من أجل إدخال السرور للأطفال أو رسم الابتسامات البريئة على الوجوه.. فالجلوس على كرسي اللعبة له ثمن، وله وقت محدد، كلما انتهى الوقت عليك تجديد الجلوس بدفع جديد، إياك أن تتخيل أنك إذا دفعت مرّة واحدة قد ملكت اللعبة كلها، أو أنك ضمنت الجلوس الأبدي على الكرسي الملوّن، فزر التشغيل بيد المالك، وجرس التنزيل بيد المالك أيضا، إن لم تدفع، فهناك غيرك من ينتظر الجلوس على نفس الكرسي وبنفس الثمن والشروط..

 

أمريكا مالك مدينة الملاهي السياسة العربية، لم تدفع المبالغ الضخمة في الحروب أو المساعدات من أجل الأهداف النبيلة، كما لا يهمّها إسعاد الزعماء العرب والحلفاء ورؤساء أقسام الدول الذين يسمّون أنفسهم "قادة".. فالسياسة بالنسبة لهم استثمار وأرباح، والجلوس على كرسي اللعبة له ثمن، وكلما انتهت مدّة صلاحية استمتاعك بالزعامة عليك أن تدفع ثانية حتى يجددوا لك الدوران والارتقاء عالياً مشفوعاً بالموسيقى الراقصة.

 

"ترمب" يقوم هذه الأيام، بدور متعهّد مدينة الملاهي السياسية، لا يحتفي كثيراً بالصداقات ولا بالعمالات ولا بالتحالفات، كما أنه لا ينظر للمتهافتين على "أوكازيون البيت الأبيض" كزبائن أيضاَ، هو يعامل كل ركّاب الكراسي في الشرق الأوسط كما يعامل موظف محطة الوقود المارين على الطريق السريع بالمزيد من الجفاء وعدم الثقة والنكران.

  

 تذكّرني الطأطأة والخنوع العربي الحالي.. بتلك الرسالة المشهورة من
 تذكّرني الطأطأة والخنوع العربي الحالي.. بتلك الرسالة المشهورة من "نقفور" ملك الروم إلى هارون الرشيد 
   
في كل خطاب أو تغريدة للرئيس الأمريكي يكرر نفس المعنى: الابتسامات أمام كاميرات التصوير لا تعني أنك صرت شريكاً في "مدينة الملاهي"، عليك التجديد الدائم لكرسي ملكك حتى نبقيك عليه وإلا أنزلناك عنه، ورفعنا عليه غيرك بنفس الشروط.. صفقات بمئات المليارات في شهور قليلة حازتها أمريكا بالعصا دون الجزرة -هذه المرة- من دول عربية كثيرة، وما زال يتعامل الرئيس بفوقية وعجرفة تشي بمستوى الذل الذي وصلنا إليه، يجري اتصالات ليلية غامضة يتمنّن فيها بأن أمريكا وراء بقاء الدول أو "الكيانات" كما يفضّل أن يسميّها، ثم يكرر لعبة الابتزاز، تريدون بقاء القوات الأمريكية في سوريا عليكم أن تدفعوا، تريدون بقاء مؤخراتكم فوق أرائك الحكم عليكم أن تدفعوا، لديكم أموال طائلة ولنا نصيب فيها بمنتهى الصراحة والوقاحة والجزية المضادة..ولأنه يلاقى استجابة سريعة ومرتعدة في كل مرة، فإنه سوف يقصّر مدة الجلوس على الكرسي ويرفع الأجرة، فتصبح مدة دوران التجديد أسرع، ادفع ادفع ادفع ادفع.. إلى أن يصبح الدفع أكثر من الجلوس.. ويبدأ الإفلاس يتدلى من الجيوب، فينزل زبوناً ويصعد آخر.

 

إذا غاب الاعتداد بالنفس، حضرت باقة الهوان.. تذكّرني الطأطأة والخنوع العربي الحالي.. بتلك الرسالة المشهورة من "نقفور" ملك الروم إلى هارون الرشيد التي قال فيها: "من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أمَّا بَعْدُ؛ فإنَّ الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرُّخِّ، وأقامت نفسها مكان البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنتَ حقيقًا بحمل أضعافها إليها، لكنَّ ذلك ضعفُ النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها، وَافْتَدِ نفسك بما تقع به المصادرة لك، وإلاَّ فالسيف بيننا وبينك".

 

فلما قرأ خليفة المسلمين الكتاب أوجعته كرامته، فاستفزه الغضب، حتى لم يقدر أحدٌ أن ينظر إليه، فأمسك بريشته، وكتب على ظهر الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم؛ قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه". وخرج "هارون" بنفسه على رأس جيش كبير حتى وصل هرقلة، واضطر "نقفور" إلى الصلح، وحمل مال الجزية إلى الخليفة كما كانت تفعل "إيريني" من قبل.

هكذا كنا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.