شعار قسم مدونات

رسائل النور للنورسي.. قوة الإيمان وحقيقة الإنسان

مدونات - سعيد النورسي

تتعدد الأصوات المنادية بالحق والداعية إلى الخير والصلاح، ولكن غايتها واحدة في الرفع من حدة الإشكالات والإحراجات التي تواجهها الأمة الإسلامية، وبث روح الأمل والتفاؤل والنشاط في صفوف أجيالها المتصاعدة، وكذا دأب العلماء الربانيين ورجالات الإصلاح في مختلف الأمصار وعير التاريخ الإسلامي الطويل. ومن هؤلاء الأفذاذ نجد الأستاذ سعيد النورسي ذلك العالم الفاضل، والذي اشتهر بين معاصريه وطلابه ببديع الزمان نظرا لسعة علمه وتفوق أدبه وحلمه، ومما يشهد للرجل بهذا الفضل مؤلفاته ورسائله التي بلغت الآفاق وترجمت إلى مختلف اللغات، هذه الرسائل التي تسعى إلى كبت لسان الظلام ونشر نور الإيمان والإسلام استمدادا من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، فلا عجب أن تسمى بعد ذلك برسائل النور.

  
وحول الرسالة الثالثة والعشرون من هذه الرسائل، سأحاول بعون الله كتابة هذه الأسطر ناقلا أهمم الأقوال والأفكار والتدبرات النورسية حول الإيمان والإنسان والتي غيرت من حالي. فاخترت إن أطلق على هذه الكلمة -أي كلمة الأستاذ النورسي- عنوان قوة الإيمان وحقيقة الإنسان، وأنا بذلك أعجز عن وصف ما وجدت في هذه الكلمة من بدائع الأسرار وخزائن الأفكار، ولذلك ادعوا كل القراء الكرام إلى الرجوع إلى المصدر، وهو كتاب الكلمات للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي وبترجمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي كي يتسنى لهم إدراك كلام الأستاذ النورسي والغوص في معانيه أكثر.

  

إننا مع الأستاذ النورسي لم نعد نفكر في الإيمان كما كنا نفكر فيه قبله، خاصة وإنك تعلم أن الإيمان هو المحدد الأساسي لقيمة الإنسان

ولكن قبل أن ننتقل إلى الحديث حول كلمة الأستاذ سعيد النورسي، من المهم أن نعطي لمحة للقارئ الكريم، فنعرف بالإمام بديع الزمان سعيد النورسي ورسائله الموسومة برسائل النور. فمن يكون سعيد النورسي وما قصة رسائل النور هذه؟ يجب أن نعلم أننا في هذه المقال بصدد عالم كردي من العلماء الربانيين ومصلح من العظماء المصلحين، الذي دون التاريخ الإسلامي عامة والتاريخ التركي على وجه الخصوص اسمه بخط عريض. فقد ولد الشيخ سعيد بن ميرزا في عصر عبد الحميد الثاني سنة 1294ه الموافق لسنة 1877م من أسرة كردية شيمتها الخير والصلاح.

  
ولقد حظي الشاب سعيد بذكاء خارق وبقدرة فريدة على الحفظ، ساعداه على الجمع بين العلم الشرعي والطبيعي ومن ثم تبليغها، ولكن البيئة التي كان يعايشها رحمه الله كانت نابذة للإسلام وأهله بدعوى التحرر والتحضر، فما لبث أن جلس هذا الشيخ للتدريس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى هاجمته الأيدي من هنا وهناك واصفة له بالتخلف والرجعية. ولعل أهم خبر هز كيان الشيخ واقض مضجعه هو علمه بتصريح غلادستون وزير المستعمرات البريطانية في مجلس العموم البريطاني، وهو يخاطب النواب في حدة وعجرفة وبيده نسخة من القرآن الكريم "مادام هذا القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم لذلك فلا مناص لنا من إزالته من الوجود، أو قطع صلة المسلمين به"، من هنا قرر الأستاذ سعيد النورسي أن يكرس كل حياته لإظهار إعجاز القرآن الكريم، وتقوية ارتباط المسلمين به فقال "لأبرهن للعالم بان القرآن شمس معنوية لا تنطفئ ولا يمكن إطفاء نورها".

  
ومن هنا بدأت قصة رسائل النور، حيث قام الأستاذ النورسي وهو في المنفى بكتابة وتأليف اغلب كتبه للرد على شبهات الحاقدين، وفضح جميع مخططاتهم ضد الإسلام، والتي اشتهرت فيما بعد برسائل النور. ويعرف لنا الأستاذ بديع الزمان هذه الرسائل فيقول "إن رسائل النور شرح لآيات القرآن الكريم وحقائقه وتوضيح للآيات المتعلقة بأركان الإيمان، بشكل يدحض أكاذيب الفلاسفة الأوروبيين، وشبهاتهم حول القرآن من أساسها".

   

 

فلله دره من رجل أوقف حياته على القرآن، وجاهد في سبيل إنقاذ الإيمان حتى توفاه الله في إحدىى الليالي المباركة من شهر رمضان شهر القرآن سنة 1379ه الموافق لسنة 1960م، تاركا لنا تراثا علميا ونورانيا قيما يحصيه الدارسون حوالي المائة والثلاثون رسالة، ألفها الأستاذ بديع الزمان ذودا عن بيضة الإسلام، وإبرازا لحقائق القرآن، ودعوة لكل إنسان للأخذ بأسرار الإيمان والترقي في مدارج العلم والعرفان، وحول هذه المعاني يحدثنا الإمام النورسي في الرسالة الثالثة والعشرون والتي اسميها كما قلت آنفا بقوة الإيمان وحقيقة الإنسان.

  
إننا مع الأستاذ النورسي لم نعد نفكر في الإيمان كما كنا نفكر فيه قبله، خاصة وإنك تعلم أن الإيمان هو المحدد الأساسي لقيمة الإنسان، حيث يعلو به الإنسان إلى أعلى عليين أو يتدنى بدونه الى أسفل سافلين، لأن "الإيمان إنما هو انتساب" كما يقول بديع الزمان، ولكن أي انتساب؟ إنه انتساب إلى خالق قدير وصانع مبدع أتقن صنعته وأخرجها في أحسن تقويم، وأما إذا انعدم الإيمان وحل الكفر، فسيقطع هذه النسبة حتما ويصبح الإنسان ولا قيمة له، "حيث تنحصر قيمته في مادته فحسب والمادة نفسها كما هو معلوم في حكم اللاشيء لأنها فانية وزائلة". لقد اخترت تسمية كلمة الأستاذ النورسي هذه بقوة الإيمان وحقيقة الإنسان، لما وجدته خلال مطالعتي لها من جدة وحيوية في الطرح جعلتني اشعر بالإيمان فأصفه بالقوة، خصوصا في المبحث الأول منها. فبعد أن فرغ الكاتب من بيان الحقيقة الأولى التي تبرز دور الإيمان في إسناد القيمة للإنسان، يواصل كلامه حول أسرار الإيمان في نقطة ثانية، مفادها أن للإيمان طاقة نورانية كبيرة وعظيمة لا تضيء الإنسان فحسب، وإنما تنتشر وتتسع لتضيء جميع الكائنات حوله.

    
ويرفق بديع الزمان هذا السر بمثال جميل، فيعتبر أن الإنسان الذي يسير في الدنيا معتمدا على أنانيته، ومصغيا لغروره، فمثله هنا كمثل الذي يمشي في الظلمات وبيده مصباح خافت، لا يريه إلا أشباحا ووحوشا مخيفة. وأما إذا تخلص هذا الإنسان من المصباح السيئ واستعاض به نور الشمس الإيمانية، وأصغى إلى كتاب الله، فعندئذ "تصطبغ الكائنات بالنهار وتمتلئ بالنور الإلهي وينطق العالم برمته الله نور السماوات والأرض". ولا تقتصر قوة الإيمان على السمو بقيمة الإنسان وتنويره وتنوير الكائنات من حوله فحسب، وإنما يوفر الإيمان للإنسان قوة من نوع أخر، وهي ما تولى الأستاذ النورسي توضيحها في النقطة الثالثة، حيث قال بان الإنسان "الذي يظفر بالإيمان الحقيقي يستطيع أن يتحدى الكائنات، ويتخلص من تضييقات الحوادث مستندا إلى قوة إيمانه… قائلا توكلت على الله". فالتوكل على الله يمنح الإنسان القوة والاطمئنان ما دام "يسلم تلك الحوادث الحياتية الرهيبة وتلك الأعباء الثقيلة أمانة إلى يد القدرة للقدير المطلق".

   undefined

 

ويضيف الشيخ بان التوكل على الله لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب ولا يرفضها، إذ الأخذ بها "هو نوع من الدعاء الفعلي ويجب اعتباره هكذا". وكعادته رحمه الله يورد مثالا يشرح به حال المتوكل المطمئن السعيد وحال غير المتوكل الحائر الشقي، ومن ثم يضفي نوعا من الجمال الوعظي يختم به كلامه، فيقول "يا أيها الإنسان البعيد عن التوكل، ارجع إلى صوابك وعد إلى رشدك… وتوكل على الله لتتخلص من الحاجة والتسول من الكائنات، ولتنجو من الارتعاد والتقهقر أمام كل حادثة".

  
فالإيمان إذن هو الكفيل بتكميل الإنسان والارتقاء به في سلم العلم والمعرفة، خاصة إذا تمسك المؤمن بحبل الدعاء فهو القائل سبحانه في محكم تنزيله "ادعوني استجب لكم". وحول أهم مقتضيات الإيمان أي الدعاء يحدثنا بديع الزمان في نقطة أخيرة، فيحث فيها المؤمن على أن يكون دائم التوجه لله بالدعاء، وان لا يترك الدعاء بدعوى عدم الاستجابة لأنه لابد من التمييز بين استجابة الدعاء من جهة وقبوله من جهة أخرى، فالشيخ يعتبر "أن كل الدعاء مستجاب إلا أن قبوله وتنفيذ نفس المطلوب إنما هو منوط بحكمة الله". وحلول بعض البلايا والمصائب على الإنسان إنما هو إشارة من الله على بداية وقت أدعية خاصة، يجب التضرع بها إلى الله سبحانه وتعالى، بإظهار فقره وعجزه وضعفه. ويواصل بديع الزمان شرح هذه اللطيفة، فيقول "وان لم يدفع الله سبحانه تلك البلايا والمصائب والشرور مع الدعاء الملح فلا يقال إن الدعاء لم يستجب بل يقال إن وقت الدعاء لم ينقض بعد، وإذا رفع الحق سبحانه بفضله وكرمه تلك البلايا، وكشف عن المعضلة، فقد انتهى وقت الدعاء حينئذ وانقضى".

  
هكذا كان كلام الأستاذ سعيد النورسي حول محاسن الإيمان وفوائده، كلام لا يخلو من التجديد والإضافة سواء في طريقة التناول، أو في بيداغوجية إيصال المعلومة إلى المتلقي، وكل ذلك بأسلوب يجتذب القلوب وتستسلم له العقول، وهو ما يعكس قدرة الأستاذ ليس على تبليغ العلم فحسب، وإنما على التأثير في روح المتعلم أيضا فيتحول ذلك العلم إلى عمل ولعل هذا أسمى ما يرجوه ويرنو إليه العلماء والمصلحين. (ننتقل إلى المبحث الثاني في تدوينة قادمة بإذن الله).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.