شعار قسم مدونات

رهاب المسافات.. الحاجز الذي نصنعه بأنفسنا!

blogs حوار

الصّداقة، الأخوّة، الحُب.. علاقات كثيرةٌ قد تجمعُنا، لتكون مصابيحَ صغيرة شاردة في مَهبّ العواصِف، فالكَثير ممّا يشغلُ الإنسَان اليوم غير إنسانيّ، تغلبُ عليه الماديّة، ولكي نعُود إلى إنسانيّتنا نحنُ بحاجةٍ إلى أن نتوقّف بعضَ الوقتِ ونُواجه النّاس ونتسَاءل كلُّ مع نفسِه: لقد ضيّعتُ اليوم يَدي.. إذا لمْ أمدّها أنا فلنْ يمدّ أحدٌ يدَه ولن ينتَشِلني من عُزلتي أحد!

   
إنها مَسافةٌ هائلةٌ تلك التي بيني وبينك، هَذه (الواو) ما أطولهَا وما أعرضَها وما أعقَدهَا.. نزيدُها بخَوفِنا من الاقتراب من الآخر أكثر، من أن نكون مُراقَبين من قِبَل الآخرين، أو أن نتصرّف بطريقةٍ خاطئةٍ، أو أن نتعرّض للانتقاد، بخوفنَا من أن تُشوّه أو تزول تلك الصّورة النّمطيّة التي شكّلها الآخر عنّا، أو تلك الآراء والأحكام المسبقة التي قد تُثبَّت وتُرسَّخ في عقول الناس عنّا من خلال مُيولاتهم المُختلفة في مُعَالجة تصرّفاتِنا والتّعامل معها.

    

فالنّاس بطبيعتهم ينسُون الأشيَاء والتصرّفات التي تُخالف وتُناقض آراءهم وتَصوّراتِهم عنّا بشكلٍ أسرَع من تلك الرّاسخة في عُقولهمْ.. والكثير من الأفكار والوساوس غير السارّة التي تخلقُ لنا مشاكلاً في التكيّف مع الآخر في الانسجام وامتزاج الأرواح، في التّعامل بعفويّة دون نصبِ الحواجز والانعزال المُطلق.. ظنًّا منّا أنّنا أكثر أمانًا، أكثر خصوصيّة، فلا نتعرّض لصدماتٍ ولا نألمُ لفقدٍ، ولا تكلمنا جراحُ الخيبة، نظنّ أنّ جمالنَا يكمُن في أن نستتر عن العالم من حولنا بألف ستار!

   

نَصب الخطوطِ الحمراءَ للآخرين أمرٌ لابدّ منه وهي غريزة وضروريّة حياتيّة ملحّة، وتتطلّبُ منّا الشجاعةَ ورباطةَ الجأشِ والقدرةَ على المواجهةِ

إنّ هذه العُزلة المُطلقة عن النّاس وكل تلك الحواجز التي نبنيها عن قصد أو بغير قصد، إن نحنُ بالغنَا فيها ووسّعنا رُقعتها بما لا يتلاءم مع الواقعِ الذي نعيش فيه، لا شكّ أنّها ستُعيقُ قدرتنا على إقامة علاقاتٍ حميميّة مع الآخرين، على أن نكون أنفُسنا لا شيء آخر، على أن نعيش مزاجيّتنا، أفراحنا وأحزاننا وكلّ لحظات حياتِنا بشكلٍ طبيعيّ، وستجعل الناس تخشى الاقتراب منّا خوفًا من لَسَعاتِنا وردود أفعالنا الحادّة وهنا قد نجد أنفسنا آمنين في مكاننا لكنّنا معزولين عمّن حولنا.

  
الحقيقةُ التي لن يُنكر أيٌّ منّا أنّ نَصب الخطوطِ الحمراءَ للآخرين أمرٌ لابدّ منه وهي غريزة وضروريّة حياتيّة ملحّة، وتتطلّبُ منّا الشجاعةَ ورباطةَ الجأشِ والقدرةَ على المواجهةِ، لأنّ التصدّي للمتجاوزين قد يكونَ مقرونًا بدفعِ ثمنٍ باهظٍ. لكنّها في حقيقتِها ليست "عامّة" تنفعُ كلّ الناسِ بل تختلفُ من شخصٍ إلى آخر وتتعلّقُ أيضًا بمكانةِ "المتجاوزِ" في أعيننا وبماهيةَ العلاقة معهُ، فما تفرضُه علاقةٌ قد تُسقِطه أخرى وهكذا.. ولا "ثابتة" من حيثُ الزّمان أو المكان.

   
لكن علينَا أن نُدرك في نفس الوقت ونستوعب جيّدًا ماهية الطّبيعة البشريّة التي خُلقنا عليها، حتّى نتمكّن من التّعايش مع الآخر بكلّ هفواتِنا وأخطائنَا وباختلاف شخصيّاتِنا، ثمّ إنّنا من السهل والطّبيعي أيضًا أن نُخطئ نحن كبشر في تقييمنا للآخرين، ‏ فقد يخدعنا المظهر الخارجي الجذّاب لأشخاصٍ هم في الحقيقة مجرّدون من المبادئ الأخلاقية. ‏ ومن ناحية أخرى، ‏ ربما نكُون قساةً أو صارمين في تقييمنا لأشخاصٍ مُخلصين ولكن لديهم بعض الخِصَال التي تُزعجنا.
   
رهاب المسافات، ما هو إلاّ مخاوفُ لا منطقيّة نخلقُها بداخلنا، ربّما من موقفٍ أو شيءٍ أو فكرةٍ مبالغٌ فيها، كعدم ثقتنا في احترام مشاعرنَا وأحاسيسنَا من طرفِ الآخرين، أو خوفنَا من مسؤولية العلاقات، أو حتّى عدم الثقة فيهم من الأساس.. أو غيرها من الأسباب، فنقرر من البداية ألاّ نقترب. لذا فالتخلّص منهُ سهل، بدايته ستكون في القُرب الصّادق والعميق والاعتراف بسبب رغبتنا في البعد عن البشر بعيدًا عن تلك المبرّراتٍ الواهية التي نختلقُها فقط لنبني بيننا وبينهُم ذلك الحاجز.
  

علينَا أن لا نُجبر أحدًا أن يكون ما نُريده عليه أن يكون، تمامًا مثلما لا نرغبُ نحنُ في أن يُفرض علينَا أن نكون القالب أو الشّكل المثالي الذي يرانا عليه الآخر
علينَا أن لا نُجبر أحدًا أن يكون ما نُريده عليه أن يكون، تمامًا مثلما لا نرغبُ نحنُ في أن يُفرض علينَا أن نكون القالب أو الشّكل المثالي الذي يرانا عليه الآخر
 

أنا وأنت بل جميعُنا، نحتاجُ للمخاطرة والمغامرة في العلاقات، لأنّ المخاطرة جزءٌ مهم في حياتِنَا خصوصًا مع البشر، لكن وفق حدودٍ طبيعيّةٍ معقولة تسمحُ للآخر بالتكيّف معها ومراجعة سلوكياته تجاهنا حسبها، ومثلما نرغبُ في أن يتقبّلنا الآخر مثلما نحنُ عليه، باختلافنا وهفواتِنا، وغلطاتِنا، بمزاجيّتنا وطبيعتِنَا التي جُبلنَا عليها دون أدنى تكلّفٍ أو تعقيد علينَا أيضًا أن نفعل بالمثل فنتقبّلهم، ﻷنهم بشر مثلي ومثلك، ثمّ تذكّر جيّدًا أنّ تلك الصورة المثاليّة والانطباع الأوّل الذي نأخُذه عنهم في البداية، نحنُ المسؤولون عن تشكيله ولا أحد غيرنا.

   

لذا علينَا أن لا نُجبر أحدًا أن يكون ما نُريده عليه أن يكون، تمامًا مثلما لا نرغبُ نحنُ في أن يُفرض علينَا أن نكون القالب أو الشّكل المثالي الذي يرانا عليه الآخر، أن نغيّر أقنعتنا حسب الذي أمامنَا، بدل أن نتقبّل ذواتنا بما هي عليه، أن نحاول تقليد ما نراه حَولنا إرضاءً لهم، نُحاول أن نكون ما يعتقد الآخرين أنه جميل وتدريجيًّا تنحل روحُنا وتهزل إرادتُنا وتخبُو كل مُحاولتِنا في التكيّفِ مع هذا الواقع ومع البشر، فنغرقُ في دوّامةٍ من الاكتئاب… فقط حاول أن لا تُحاول التكلّف، كُن طبيعيًّا واخلع عنك هذا الرّهاب، فالعلاقات ضرورة بشريّة لا يُمكن أن نتنكّر لها أو نعيش بمنأى عنها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.