شعار قسم مدونات

كيف عرّى "السلطان" أردوغان عُقد نقصنا؟

blogs أردوغان

ثلاثون دقيقة وأنا أحاول اختيار العنوان الأنسب لتدوينتي، كتبت وحذفت، عدّلت وجمّلت، قصّرت وطوّلت، وقررت في اللحظة الأخيرة اعتماد العنوان الذي أمامكم، "كيف عرّى السلطان أردوغان عُقد نقصنا؟". كنت دقيقاً وحريصاً في اختيار عنوان يراعي حساسية الموضوع ومكانة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لدى الجماهير العربية بالتحديد. مع العلم أن المقصود في تدوينتي ليس الرئيس أردوغان، الطيب المتواضع، والسياسي المحنّك.

 

إنما الجماهير العربية، الطيبة المسكينة، اليتيمة العاجزة. العاطفية والخيالية حتى النخاع. والتي يساعدها "اضطراب تبدد الشخصية الجماعية" لديها بأن تنفصل عن واقعها بعد تقاعسها أو فشلها في تغيير وإصلاح حكوماتها وأنظمتها، وتعيش تجربة ديموقراطية كاملة في مخيلتها، فتشارك في انتخابات رئاسية في بلد غير بلدها، وتعلن اسم مرشحها، وأسماء خصومها، وتدلي بأصواتها، وتنتظر النتائج بلهفة وتعلن بعد ذلك انتصارها وتحتفل به. وكلّ ذلك يا سادة في مخيّلتها.

من الصفحة الزرقاء الى الواقع البائس

ثمان وأربعون ساعة على الأقل، منذ ليلة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية وحتى ما بعد إعلان النتائج الرسمية وإلقاء خطاب النصر، كانت فيها صفحات أصدقائي الأتراك على فيسبوك وتويتر عادية جداً، مع فارق بسيط يكاد لا يميّزها عن باقي أيام السنة، بينما في المقابل، كانت الصفحات العربية تبرق وترعد وتتزلزل وتشتعل بكل ما للكلمة من معنى.

 

الجزئية التي يمكن تنزليها فعلاً على واقع معظم الجماهير العربية، المبالِغة في كل شيء، في حبها وكرهها، وتقديسها واحتقارها، وتشجيعها ومقاطعتها، وتعلّقها وانفصالها، والتزامها وتفلّتها

فصور "للسلطان" رجب طيب أردوغان من هنا، وتشكيلة أدعية وأحراز وحجابات ل"خليفة" المسلمين رجب طيب أردوغان من هناك، وأدعية على العلمانيين والأتاتوركيين "أعداء" الإسلام وخصوم حفيد آل عثمان، ومنشورات ومقاطع فيديو، ونشرات وتحديثات، ومن ثم إعلان تتويج أردوغان "إمبراطوراً" على الشرق، ومفرقعات وأغاني وأناشيد وصيحات وحلويات. فيلم تاريخي، قيامة ثانية لأرطغرل، لكن بإنتاج "عربي"، وما أدراك ما الإنتاج العربي. وما هي إلا ساعات، حتى انتهى الفيلم، وعاد الكل من صفحته الزرقاء الى منزله المظلم وفراشه العتيق وواقعه البائس، نام واستيقظ والحال في بلاده كما هو.

أعراض اضطراب شخصيتنا الجماعية

لا أخفيكم سراً، أني فرحت بفوز أردوغان، مثلي مثل الجماهير العربية، لكن حزني علينا وعلى واقعنا شوشني وأفسد عليّ فرحتي. وتذكرت "جزئية" من نظرية الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون (1841-1931م) حول سيكولوجية أو علم نفس الجماهير. وبالتحديد، القسم المتعلق بجنون وهستيريا الجماهير إذا ما أحبت فكراً أو قائداً أو سياسياً أو بطلاً، كيف تبالغ في حبها له وتتحمس له وتصفق له بكل حماسة وخبال وتتبعه في لحظة ما حتى الموت، وكيف تنصهر الروح والعاطفة لدى الأفراد، وتضيع فروقاتهم الثقافية والفكرية حين يشكلون جمهوراً واحداً.

 

الجزئية التي يمكن تنزليها فعلاً على واقع معظم الجماهير العربية، المبالِغة في كل شيء، في حبها وكرهها، وتقديسها واحتقارها، وتشجيعها ومقاطعتها، وتعلّقها وانفصالها، والتزامها وتفلّتها. الأمر الذي يدل على اضطراب الشخصية الجماعية لدى "معظم" الجماهير العربية المثقفة وغير المثقفة، والذي يتجلى في مبالغتها في عواطفها السياسية، وانتقال تلك العواطف والأفكار والانفعالات تماماً كالعدوى بين الجمهور، والتي بلا شك هي نتيجة للتراكمات النفسية وعقد النقص التي سببتها الأنظمة العربية الاستبدادية والمتخلفة للشعوب، فأصبح الطبيعي في نظر غير العرب، امبراطوريا وسلطانيا واستثنائيا وخارقا للعادة في نظر الجماهير العربية.

كيف تساهم الجماهير العربية بالاغتيالات والانقلابات؟

إن حالة الهيجان الزائد عن حده لدى الجماهير العربية، والتي سقاها الإعلام المسوّق لنفسه عبر أردوغان أو بالأحرى على ظهره، بشقه العربي المؤيّد، وكذلك التركي المعرَّب الفالت بلا شك من الرقابة الحكومية، كان لها دور غير مباشر في تكبير فقاعة الظاهرة الأردوغانية وتضخيم حجمها، وتسليط الضوء عليها بشكل ساطع يُمّكن السطحي من الافتتان بمحاسنها فقط، والعميق من تعرية نقاط ضعفها، وكذلك الإساءة إليها من خلال رش البهار على كل موقف أو تصريح أو حركة مقصودة كانت أو غير مقصودة، وتحوليها وتحويرها، واختلاق الأخبار العارية عن الصحة أحياناً.

 

الأمور التي أدت جميعها الى المساهمة في تنمية شعور الغيرة والكراهية تجاه أردوغان شخصياً، وتجاه حزبه وتجاه التجربة التركية الحضارية ككل، لدى منافسيه وخصومه الداخليين والخارجيين، وبالتالي فتح أبواب الانتقادات الباطلة في كثير من الأحيان والمحقة "أحياناً" على مصراعيها، وتسلط وسائل الإعلام ووكالات التصنيف وغيرها من الوكالات والمنظمات الدولية التي تصدر التقارير والدراسات، وبالتالي تشجيع محاولات الانتقام منه والانقلاب عليه وعلى حزبه، والتي كان آخرها الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو/تموز 2016، ومن ثم محاولة اغتياله قبيل زيارته الى البوسنة والهرسك في مايو/أيار هذا العام.

 

وحتى على الصعيد الشعبي التركي، لا سيّما الفئة "المتعصبة" منه والتي لا تمثّل الشعب التركي بأكمله بلا شك، عززت الحالة العربية العجيبة هذه الانطباع السلبي نحو الجماهير العربية المقيمة في تركيا وخارجها، وأثارت موجة استهزاء وسخرية من حالة الجفاف القيادي والتصحر المرجعي لدى العرب إن صح التعبير، واعتبار ما يحصل في بعض الدول العربية نتيجة طبيعية تعكس مستوى وعيهم السياسي الشعبي وعاطفتهم السياسية المفرطة.

ليدفعنا حبنا لأردوغان للاستفادة من التجربة الديموقراطية لبلاده، وتأسيس مدرسة سياسية تعلم فنّ السياسة حسب منطق العصر ولغته، فلتكن حركة عدالة وتنمية عابرة للحدود مثلاً
ليدفعنا حبنا لأردوغان للاستفادة من التجربة الديموقراطية لبلاده، وتأسيس مدرسة سياسية تعلم فنّ السياسة حسب منطق العصر ولغته، فلتكن حركة عدالة وتنمية عابرة للحدود مثلاً
 
هل المطلوب أن لا نحب أردوغان؟

ليس المطلوب من الجماهير العربية أن تنسى أردوغان أو أن تتوقف عن حبه، إنما المطلوب أن لا تبالغ في توصيفه وإظهار حبها له بشكل مرضي وساذج. المطلوب أن تكف عنه مشاعرها المفرطة وحبها الخانق ولهيبها الحارق. المطلوب أن تعتدل في حبها له ولتركيا وأن لا "تنجلق عليه" بلهجة اللبنانيين، فالحب كما قالت نينو دي لنكلو، أشهر محظيات البلاط الفرنسي، "لا يموت من الجوع ولكن يموت من التخمة".

 

فليدفعنا حبنا لأردوغان للاستفادة من التجربة الديموقراطية لبلاده، وتأسيس مدرسة سياسية تعلم فنّ السياسة حسب منطق العصر ولغته، فلتكن حركة عدالة وتنمية عابرة للحدود مثلاً، تستقطب هذه الجموع الغفيرة من المؤيدين في جميع أنحاء الوطن العربي، وتفعّل قوتهم بحنكة وتبصّر وعبقرية وعقلانية ووعي.

 

فأردوغان يتطلع الى مبادرة حقيقية، منتجة، وتفاعلية ناضجة من الجماهير العربية، حتى يضع يده بيدها ويكملان الطريق سويا، أردوغان يرفض العقلية العربية المتواكلة والمتنظرة الفرج من الله والعون من "السلطان"، بلا عمل وسعي صادق وجادّ. أردوغان يريد أن يفيد ويستفيد، ونحن بعقليتنا هذه نريد أن نستفيد فقط، ونوكل إليه أمرنا، ونحوّل إليه ضعفنا ونرسل إليه مشاكلنا ومصائبنا وأمراضنا وأوبئتنا، أردوغان ليس يسوع المخلص ولا المهدي المنتظر ولا صلاح الدين الأيوبي ولا محمد الفاتح ولا السلطان العثماني. أردوغان هو أردوغان. فلنستفيق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.