شعار قسم مدونات

غسّان كنفاني.. تسقُطُ الأجسادُ لا الفِكرة!

blogs غسان كنفاني

"احذروا الموت الطبيعي، ولا تموتوا إلاّ بين زخات الرصاص"

– غسان كنفاني

ككل الذينَ يرحلونَ مُبكراً، رحلَ غسّان كنفاني بعيداً، وتَوَارَى عَنِ الأنْظَار، بيدَ أنه لم يغبْ عن الذَّاكِرَة، ومَصْطَبَات الروح، لا أذكرُ متىَ تعرفتُ على أدب غسان كنفاني، لكنِ ما زلتُ أذكرُ يومَ أن وقعتْ في يدي روايَته الأشهر "عائد إلى حيفا" أستطيع أن أقول: بدون مُبالغة، كانت أحدىَ الروايات التي تفاعلتُ معَها حتى البُكاء المتكرر! لقد أحدَثتْ فَيِّه انقلاباً، وفكراً، ًووَعْياً، انّها هزتني، أربكتني، وضعتني أمامَ سُؤالا: ماذا يعني أن تكونَ لاجئاً هائمًا على وجهِكَ بلا وطن تعيشُ فيه؟ وزَيْتونَةٍ تسقيها، ووَرْدَة تزرعها أمام بيتكَ تُهديها لعاشقٍ دَقَّ قلبهُ لهَا. بعدما أَنهيتُ قِرَاءةُ الرواية، تمنيتُ لو أنَّها لم تقع في يَدِي؛ حتى لا أرَى نفسي عارياً! لقد استطاع الأديب غسّان كنفاني أن يصور مَأْسَاة النكبة، بشكل درامي، وترجيدي، بليغة الأسلوب، سامية المغزىَ، تهز قارئها من الداخل.

عائد إلى حيفا.. وما زال الجرح ينزف

تدور أحداثُ الرواية صبيحة الحادي والعشرين من نيسان عام 1948، وقد انهمرت قذائفُ المدفعية من تلال الكرمل العالية، لتدك َمدينة حيفَا، وفي هذَا الوقتْ كانت سيدة قد تركت ابنها الرضيع الذي اسمه "خلدون" في البيت، وخرجت تبحثُ عن زوجِهَا وسط حشود الناس المذعورة، حيث يضطران للنزوح.

 

وتمر الأيام والسُنون وتعود الأسرة إلى البيت بعد حرب عام 1967 لتفاجأ بأن "خلدون" قد أصبح شاباً وان اسمه "دوف" وهو مجند في جيش الاحتلال! وقد تبنته أسرة يهودية؛ استوطنت البيت بعد نزوح 1948 وهنا تبلغ المَأْساة ذروتها، بعد أن عرف الفتى الحقيقة إذ أصر على الانحياز إلى جانب الأم الصهيونية التي تبنته! وفي نفس الوقت؛ كان الزوج يعارض التحاق ابنه الثاني بالعمل الفدائي، وبعد أن رأى حالة ابنه البكر تمنى لو ان ابنه خالد قد انضم للمقاومة.

قتل غسان كنفاني يوم أن أخرج من وطنهَ مطروداً، واحتُل بيته في عكا من قبل أسرة يهودية، أتت من آخر العالم تستوطن فيَه، وتمْسَحَ ذاكرتَه، وتاريخهَ

نحنُ من جيل لم يعش أحداث النكبة ومُجرياتها، من مَأْسَاة، وتشرّد، وقتل، ونفي لكننا سمعنا، وقرأنا، وحدّثنا، مما شاهدوها من كبار السن ماذا يعني أن تُجتث من بيتكَ وأرضِكَ عَنْوَةٌ؟ ويُلقىَ بكَ خارج حدود الوطن، لقد كانت أبْشَعُ جريمةٍ يوم طُردْنا أمام أنظار العالم الظالم؛ الذي لم يُحرك ساكناً، بل تَوَاطَأَهُ مع الجَلاّد ضد الضحية!


قَتْلُ امرئٍ في غابةٍ جَريمةٌ لا تُغْتَفَرْ
وقَتْلُ شعبٍ آمن مسألةٌ فيها نَظَرْ
 

غسان كنفاني.. حينما يموت مِراراً!

لذلك أنا أعتقد أنَّ غسّان كان يخوضُ صراعًا نفسياً مع نفسهَ أولاً: ومع حالة الضَّعْفُ، والخَوَر، التي استبدت بنا، ومع "الأنظمة العربية" المُتهالكة ماذا يعني أن يُشرد شعب بأسرهَ؟ وهُناكَ من الدول من كانت تملك من المعدات، والأسلحة، والجنود، تحطيم عصابات "الهاجاناه" أمام دويلة صغيرة، لم تكن فعليًا قد أقيمت، حينها قال غسان: "في الوقت الذي كان يناضل فيه بعض الناس، ويتفرّج بعض آخر، كان هناك بعضاً أخيراً يقوم بدور الخائن".

لكنَّ الحقيقة الكَامنَة أنّ غسان كنفاني قُتل أكثر من مرة! وهل يُمكن لشخصٍ يموتُ مرات عديدة وأنفاسه تدب فيه! طبعًا هذا ما حدث مع الأديب، لقد قتل يوم أن أخرج من وطنهَ مطروداً، واحتُل بيته في عكا من قبل أسرة يهودية، أتت من آخر العالم تستوطن فيَه، وتمْسَحَ ذاكرتَه، وتاريخهَ. وقتل يوم أصبحَ يحملُ اسم "لاجئ" ولا ينفصل عن أنُه إنسان فقير يترقّب مساعدة تقدمها وكالة "الغوث وتشغيل اللاجئين".

 

وقتل يوم أن وقَفَ عاجزاً عن مُجابهة المُغتصبين الصهاينة، لم يكن يمْلِكُ شَيْئاً إلّا؛ غضبٍ اختَمَرَ في قلبهَ، لحين انفجارهَ في وجهه الغُزاة. وقتل يوم أن اقتُلعت شجرة الزيتون في حوش بيته، بعد أن زرعها وأخد يرْقُبُ نُموها مع كرِّ الأيّام والليالي. لكنَّ الحقيقة المرة، والتي نتحاشاها، أننا اغتصُبنا أمام أنظار العالم! وبانت عورتنا المغلّظة لقد فقدنا أثمن ما يملكه المرء إنها "الكرامة" وبعدها هان علينا كلُ شيء! ولم نعد نبكي، وجلسنا على الأطلال، ننْدُبُ حظنا، وفشلنا وقهرنا.

حينما يتحول الأدب إلى رصاصات

وهنا وقَفَ غسان وحيداً يُجَابِهُ نفسه، وعَاَلمهُ الخاص، ماذا حدث؟ ولماذا؟ وأين نحن نعيش؟ أين العدالة؟ لكنَّ غسان أَدْرَك بعد ضياع ما ضاع لنا، أننا أمام مرحلة جديدة، وأنّ القوانين ليست عادلة، ويجب علينا أن نصوغ قانونَنَا الخاص، الذي يُعيدُ لنا حقوقنا، وينتزعها انتزاعاً وفي ظلِ الظروف التي كانت تمر بها القَضِيَّة الفلسطينية، لم يكُن بيدِ غسان إلا قلمه، فامتشق قلمهُ وصاغ أحرفه، وكلماته، التي أصبحت طلقات نّارية جارِحة.

 

أَدْرَك الصهاينة أنهم أمام كاتبٍ يقْذِفُ عليهم الحمم، وأنّ كلماتهُ تفعلُ فعْلَهَا؛ ولا تقل خطراً عن الرصاصة التي تُطلق من يد فدائي اِخْتَبَأَ خلف زيتونتهَ، وكأنّي بغسان، يترجم قول الشهيد سيد قطب "إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا. ولكن بشرط واحد: أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم! أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم! أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، ويقدموا دمائهم فداء لكلمة الحق. إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء، انتفضت حية، وعاشت بين الأحياء".

فغسان كنفاني، ليس جسداً يمزق، ويتَنَاثَرُ بقدر ما هو مشروع فكري ثوري، رسم لنا الطريق الصحيح، بعدما أيقن أننا نعيشُ في عالمٍ ليس فيه مَكَانٍ للضعفاء
فغسان كنفاني، ليس جسداً يمزق، ويتَنَاثَرُ بقدر ما هو مشروع فكري ثوري، رسم لنا الطريق الصحيح، بعدما أيقن أننا نعيشُ في عالمٍ ليس فيه مَكَانٍ للضعفاء
 
غسان فكرة.. والفكرة لا تموت

وفي 8 يوليو/تموز 1972 اتخذت غولدا مائير رئيس وزراء الاحتلال آنذاك قرارا باغتياله، وكلفت الجنرال في الموساد "زامير آمر" بتولي المهمة، عبر عملاء الاحتلال في لبنان، واستشهد غسان في بيروت مع ابنة أخته لميس، في انفجار سيارة مفخخة، وبحسب نتائج لجنة التحقيق؛ التي شكلتها الجبهة الشعبية، فقد نتج الانفجار عن عبوة ناسفة قدرت زنتها بتسعة كيلوغرامات، وضعت تحت مقعد السيارة وانفجرت عند تشغيلها .

دائمًا حسابات الطغاة، والمتجبرين، ضيقة يتيمة، يتوهّمون أن قتل الأشخاص سيقتل الفكرة. لقد ظن الصهاينة باغتياله أنهم قتلوا جَذوة الصراع، أو ما علموا أنهم بمقتله؛ أعادوا البوصلة إلى مسارها الصحيح، فقلد ثم إحياء غسان كنفاني من جديد، مثل طائر الفينيق، ولا تزال الأجيال تقرأ له رواياته وأدبه، بعمق فكرتها، وآفاق دلالاتها الثورية، التي ترفض الظلم، والتمرد على كل أشكال الخنوع والانهزام، وأنّ الدماء هي التي سترجع أرضنا التي سُلبت، ومقدساتنا التي انتهكت، وكرامتنا التي هدرت، وأنّ علينا أن نعي أن طريق التسوية، والمُفَاوضَات الهزلية لن يُجني لنا ولقضيتنا إلا مزيداً من التقهقر والإذلال، خاصة في هذه الظروف التي تحياها القَضِيَّة، فهؤلاء هم الذين صرخ في وجوههم رسام الكاريكاتير الشهيد ناجي العلي قائلا لهم: "كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي.. أنا أعرف خطا أحمر واحدا، أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل".

فغسان كنفاني، ليس جسداً يمزق، ويتَنَاثَرُ بقدر ما هو مشروع فكري ثوري، رسم لنا الطريق الصحيح، بعدما أيقن أننا نعيشُ في عالمٍ ليس فيه مَكَانٍ للضعفاء لذلك سعَى الصهاينة لقتله وإخْماَدِ صوتَه لكننا نقول لهم يا هؤلاء غسان فكرة، والفكرة لا تموت، أليس هو القائل: "تسقُطُ الأجسادُ، لا الفِكرة".

أيُها الغائبُ عنا في ثنايا الروح 
دمُك أراهُ أمامي وحُلْمُكَ يُلامسني
هلّا حدّثَنيِ عن الوجعِ والفرح
أراك بعيداً وأنْتَ قريبًا من أنفاسي
غسان حلق بعيداً لكن انظر إلينا

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.