شعار قسم مدونات

سجناء الذات.. كيف تجبر نفسك على العزلة؟

blogs - 107-3-main

الباب مغلق بإحكام، تتسرب من النوافذ أصوات خافتة ونظرات خجولة، أنت تقبع هناك، تنتظر أن يقتحم أحدهم عليك خلوتك عنوة، أن يكسر الباب ويفشي داخلك سرا، لا يمكنك التعبير عن نفسك بطريقة أخرى، أنت مسجون داخل جسدك، مجبرا أو عن قناعة لا يهم، كل ما في الأمر أنك محكوم بالاختفاء، تحاول مجددا أن تتملص من سجنك، كلما قرأت كتابا من تلك الكتب التي تدعي معرفتك والتي تحفظها عن ظهر قلب، كتب التنمية البشرية، كيف تتخلص من قيودك؟ كيف تكون منطلقا؟ كيف تكون متحدثا بارعا؟ إلى آخره، إلى آخره، لا شيء ينفع.

  

يحاول شخص ما أن يمسك بيدك، هو كطائر يستيقظ صباحا ليشدو، ليوقظ الجميع ويخبرهم "أنا هنا، أنا موجود"، ثم يفتح جناحيه ويحلق عاليا ليراه كل العالم، بينما أنت ظل الطائر، تكتم تغريدك وتبحث عن حفرة في الأرض لتختبئ داخلها، هو النور المشع من الشمعة، يضيء وينير ظلام الآخرين، وأنت الشمعة نفسها تحترق وتختفي دون أن يلاحظك أحد.

  
يبدأ محاولته كما الآخرين بالسؤال المعلوم "لماذا أنت صامت؟" هل تملك الجواب؟ تبحث في نفسك عن ما يمكنك أن تفسر به فلا تجد، أنت لست صامتا، أنت فقط لم تتكلم بعد، داخل هذا السجن تنمو لديك حاسة سادسة، الخيال، تبني عوالم خاصة بك، حيث تكون أنت نفسك، حرا، كاملا، منطلقا، تتعرف على نفسك كما هي دون نواقص ودون مجاملات.

  
أنت ترى نفسك عاريا من القيود، كما تريد أن يراك العالم، كما تفكر أن تكون دائما، على طبيعتك، تمتلك أكثر الشخصيات مرحا وأكثرها إثارة، تتحدث بكل ثقة، تتجاوز كل العوائق، أنت وحدك أو محاطا بالآخرين، لا يشكل ذلك فارقا لديك، ثم تستيقظ لتحدق في وجه ذلك الغريب الذي يحاول إحداث ثقب في جدارك ليصلك، تغلق الثغرة في وجهه كردة فعل وترحل.

 
تلوم نفسك بعد ذلك، تستغرب كيف تعاند نفسك، كيف تجبرها على هذه العزلة، لكنك سرعان ما تتذكر خيباتك الماضية كلما انفتحت لأحدهم ولو قليلا، فتؤمن بانغلاقك "أنا هكذا لأكون بخير"، في المرة الأخيرة التي وهبت فيها نفسك، تتذكر كيف شعرت بالخفة، وتخلصت من العبء، ألقيت بثقلك كله على كاهلهم، أخبرتهم بنواقصك ونقاط ضعفك، تحدثت عن هواياتك وأشيائك التافهة، منحتهم وقتك وتفكيرك ومفتاح قلبك، بل أكثر من كل ذلك منحتهم نفسك، أنت الحقيقي، ماذا فعلوا هم؟ نعم كما توقعت، لم يهتموا.

   
هم معذورون بالطبع، فبالنسبة لهم هم الأحرار، أنت لم تبذل أي مجهود، أنت فقط عرفتهم بنفسك على مضض، هذا ما هم معتادون على تقديمه لكل الغرباء، لا يحتاج الأمر لعلاقة شخصية حتى يعرفوا بأنفسهم، لكن بالنسبة لك، فأنت قدمت أكبر تضحية في حياتك، خضت حربا مع داخلك لأجلهم، وانتصرت لأجلهم، وحين خذلانهم كما تصوره أنت أعيدت تلك القيود مجددا، وأضيفت قيود أخرى نتيجة للتجربة الفاشلة في نظرك.

     

undefined      

   
تكور على نفسك، اطلب منها سؤالا واحدا "ماذا تريد؟" وستجد الجواب في انتظارك "أن أكون أنا"، ماذا ننتظر إذن لنكون نحن؟ تعال نفكك هذه العقد المتشابكة هنا فوق صدورنا، خيطا خيطا، في البداية نحن خائفون، نعم يوجد داخل كل سجين ذلك الصوت الدفين الذي يصرخ بين الحين وو الآخر "ماذا لو؟"، ماذا لو لم نكن كما نحن بخيالنا؟ ماذا لو لم يعجب الأخرون بشخصيتنا؟ ماذا لو شعرنا بالندم؟ وهذا هاجسنا الكبير "الندم"، نحن مستعدون للمحافظة على أي شيء، وأعمم أي شيء، كي لا نندم لاحقا، حتى لو تخلينا عن أشياء أكثر قيمة في سبيل ذلك، وغالبا نحن نندم في نهاية المطاف على ما احتفظنا به وعلى ما خسرناه معا، الندم هو رفيق دربنا وهو المشيد الرئيسي للعديد من هذه الجدران المبنية حولنا.

  
مشكلتنا الثانية أننا نشعر ونحس بصورة مبالغ فيها، نشعر بتغير نبرة الصوت، وتغير نظرة العين وتغير نبضة القلب، نشعر بالأمر السيء قبل حدوثه، ونشعر بكل كلمة تقال لنا، نعاني من حساسية مفرطة، تؤذينا الأشياء البسيطة والتافهة، وتحدث داخلنا جروحا عميقة، لكن في المقابل نحن حريصون جدا على مشاعر الآخرين، نبذل قصارى جهدنا كي لا نؤذيهم، لأننا مدركون تماما معنى الأذى.

   
أيضا، نحن قليلو التجربة، لم يسبق لنا أن فتحنا أنفسنا للآخرين، لذا عندما نحاول ذلك، فنحن لا نعرف كيف ينبغي لنا أن نتصرف، ما هي التصرفات اللائقة والغير اللائقة في مواقف محددة؟ ما هي الحدود التي ينبغي عدم تجاوزها؟ ما هي البديهيات التي علينا الالتزام بها؟ نتخبط في علاقاتنا بعشوائية واضحة، نخطئ في كل شيء، ولا نؤمن بإعطاء أنفسنا فرصة ثانية لأننا نعاني من مشكلة أخرى هي قناعة تسكننا "لا نريد حياة مليئة بالأشخاص العابرين"، أدرك أن هذه حماقة، لكن هذا ما نؤمن به، لذا نحاول بكل طاقتنا أن نحافظ على الشخص الذي وثقنا به ولا نريد استبداله تحت أي ظرف إلا إذا فقدنا تلك الثقة.

   
نحن سجناء الذات، ندرك هذه الأعراض، نشخص مرضنا بسهولة، لكننا لا نعرف العلاج المناسب، لذا نفضل الانزواء، لا بد وأنك قد صادفت أحدنا يوما ما، قد تكون أنت أو صديقك المقرب الذي وثق بك، قد يكون رفيق حياتك أو ذاك الجار المحايد الذي لا يكلم أحدا، تطلق علينا مسميات عدة مثل المتكبر والمغرور والتافه والمعقد والمنطوي، دائما ما تجدنا نفضل الكتابة، لأنها وسيلتنا المثلى للتعبير، لا نحب الأماكن المزدحمة، نسعى لنيل رضى الجميع، ونحترم القوانين أينما كنا.

  

أنت تحارب كل هذا في صمت، وتتغلب على نفسك عندما ترى إصراره، تتقدم نحوه بكل تبلد وعفوية "هذا أنا"

في هذه الأثناء وأنت تقرأ، سواء كنت سجينا أو حرا، هل تعتقد أننا نبالغ كثيرا في وصف أنفسنا؟ بالفعل هذا ما يبدو من الخارج، نحن نستطيع التفكير بمنظور الآخرين لأن هذه هي طريقتنا البدائية للتأقلم مع العالم الخارجي، نحن نلعب كل يوم لعبتنا المفضلة " كما لو " نفكر كما لو أننا شخص آخر، نتصرف كما لو أننا شخص آخر وبالتالي نعطي صورة للآخرين بأننا شخص آخر، نحن نكسر هذه القاعدة فقط مع الأشخاص القلائل الذين نقدم لهم أنفسنا كما نحن.

  
لكن تعال معي نحو الداخل قليلا، وبما أنني أكتب فإمكاني أن أفتح هذا الصندوق المغلق لك، كيفف يبدو لك الوضع إن كنت جالسا لوحدك ولمحت ظلا يقترب منك، إنه يدنو بكل ود، تتضح لك معالمه، قد يكونا صديقا أو زميل عمل أو أيا يكن، تلتقي أعينكما فتشعر بالخطر، جزء منك ينجذب لذاك القادم بينما بقية الأجزاء تحذر.

-لا تثق فقد يخذلك
-لن يحبك كما أنت 
-إن صدقته سيعتقد أنك مغفل 
-لا يمكنك إضافة اسم جديد لقائمة العابرين
وأصوات كثيرة ابتعد ابتعد ابتعد

   
الآن أنت تحارب كل هذا في صمت، وتتغلب على نفسك عندما ترى إصراره، تتقدم نحوه بكل تبلد وعفوية "هذا أنا"، الجلد الذاتي لا يتوقف داخلك، أنت تدوس على نفسك وتعبر إليه، أنت تتمرد على عقلك، أنت تعطي قلبك كاملا دون ضمانة، قد يمر وقت قصير أو طويل، ثم يبتعد ذاك القادم عنك، أخبرني كيف ستستطيع الالتجاء إلى نفسك؟ كيف سيستطيع داخلك الاعتناء بك بعد أن تجاوزته؟ وكيف ستستطيع خوض هذه الحرب مرة أخرى من أجل قادم آخر؟ هذه محاولة للكشف عن نفسيتنا المعقدة، إن كنت تقول أننا مرضى فأنت محق في ذلك، إن كان يبدو لك الأمر عاديا فأنت محق في ذلك، لا توجد قواعد ثابتة تحكم نفسيات البشر، لكن هذه الصفات يتقاسمها العديد من الأشخاص، ويبوحون بها سرا في آذان أحبائهم كمرض خطير.

   
في النهاية نحن ندرك أننا مكلفون، لأن العالم يتجه نحو الجاهز ولا يغريه الانشغال في البحث داخلك، قدم نفسك أو "بع نفسك" لتستطيع المضي قدما، لكننا فقط نقول أننا هنا لدينا ما يميزنا كما الجميع، لكن هلا كنتم أكثر حرصا معنا. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.